الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون

                                                          إن الله سبحانه وتعالى أشار إلى أن الكافرين يجحدون، وقد قامت الآيات عليهم تدعوهم إلى الوحدانية، وأنه لا يعبد إلا الله، وثبت أنهم يعاندون، ويردون الآيات، ويكذبون رسل الله سبحانه وتعالى، وقد أوتوا بالبينات من [ ص: 2679 ] ربهم، وما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر. وفي هذه الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى أن الله غني عن العباد، فلا يستفيد من عبادتهم إن عبدوه مخلصين، ولا ضير عليه من كفرهم، إن كفروا، ولكن الله تعالى برحمته بهم يريد لهم الحق، ولا يرضى لعباده الكفر؛ ولذا قال تعالى: وربك الغني ذو الرحمة

                                                          (الواو) عاطفة عطفت هذه الجملة على ما قبلها، وصدرها بقوله تعالت كلماته: وربك أي: خالقك، ومربيك وقد تولاك بربوبيته كما تولى الوجود كله بربوبيته، وهذا ترشيح لمعنى أن الغني من لا يحتاج فيكون في غناء عن غيره، ومن هو قائم على الوجود لا يحتاج لأحد في الوجود، وقد ذكر سبحانه أنه الغني وحده، فكل من في الوجود يحتاج لغيره والله تعالى لا يحتاج إلى أحد، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقد عرف الله سبحانه وتعالى الطرفين في قوله تعالى: وربك الغني وتعريف الطرفين يدل على القصر؛ أي: لا غني في الوجود سواه، كما قال تعالى: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد

                                                          ووصف الله سبحانه وتعالى بعد تأكيد أنه الغني وحده، وأن كل من في الوجود فقراء إليه - بأنه ذو الرحمة أي: أنه صاحب الرحمة وحده، و: (ذو) بمعنى صاحب، فهو الرحيم رحمة مطلقة بعباده، ورحمة غيره رحمة نسبية، تليق بالمخلوقات، أما الله تعالى فرحمته واسعة، وسعت كل شيء، خلق الكون والناس برحمته، وخلق العقلاء وكفلهم برحمته، وأنزل من السحاب ماء مدرارا برحمته، وخلق من الماء كل شيء حي برحمته، وجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا برحمته، وخلق الموت والحياة برحمته، وخلق البعث والنشور برحمته، وأنشأ السمع والأبصار والأفئدة برحمته.

                                                          فإذا كان هو الغني وحده، فهو الرحمن الرحيم، والقادر على كل شيء; ولذا قال تأكيدا لقدرته وفقر العباد إليه.

                                                          [ ص: 2680 ] إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء

                                                          إن الذين يعاندون الله تعالى، ويحادون رسوله ومن اتبعه من المؤمنين، ويحادون الله بمحادة عباده المؤمنين. الله لا يحاده شيء في الوجود، فإنه: إن يشأ يذهبكم لا تكونون في الوجود، وذلك بإماتتكم أو إفنائكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء من الخلق، ومعنى: (يستخلف) يكون خلفا لكم في الأرض ما يشاء من عباده، وجاء الكلام للدلالة على العموم، والمعنى أنكم وجدتم بمشيئة الله، ويذهبكم بمشيئته، ويجعل خلفا لكم من يشاء فأنتم في حياتكم ومماتكم، وحياة من بعدكم ومماته بمشيئته سبحانه، وهذا كما قال تعالى: وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم وكما قال تعالى: إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وقد أقام سبحانه الدليل على الإذهاب والاستخلاف بحالهم هم، فقال تعالى: كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين

                                                          أي: أنتم لستم أول المخلوقين ولا آخرهم، فقد كنتم ذرية لمن سبقوكم، وهم قوم آخرون، وستكون من بعدكم ذرية، وقوله تعالى: كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين تشبيه لحال الذين يخلفونهم بحالهم، فهو قياس حالهم على حال من يجيئون بعدهم، فإذا كنتم قد نشأتم من ذرية من سبقوكم، فمن يخلفونكم ينشئون من ذريتكم. والخلاصة: الله غني عنكم، وهو يرحمكم، والوجود يتوالد بعضه من بعض بقدرة الله تعالى، والأجيال متعاقبة، فإن كنتم جيلا كافرا سيجيء من بعدكم جيل مؤمن، والله على كل شيء قدير.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية