الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإذا كان صدق المخبر وكذبه يعلم بما يقترن من القرائن ، فكيف بدعوى المدعي أنه رسول الله ، كيف يخفى صدق هذا من كذبه ؟ وكيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الأدلة ؟ ولهذا لما كانت خديجة رضي الله عنها تعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه الصادق البار ، قال لها لما جاءه الوحي : إني قد خشيت على نفسي ، فقالت : كلا - والله لا يخزيك الله [ أبدا ] ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتكسب المعدوم ، وتعين [ ص: 145 ] على نوائب الحق . فهو لم يخف من تعمد الكذب ، فهو يعلم من نفسه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكذب ، وإنما خاف أن يكون قد عرض له عارض سوء ، وهو المقام الثاني ، فذكرت خديجة ما ينفي هذا ، وهو ما كان مجبولا عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، وقد علم من سنة الله أن من جبله على الأخلاق المحمودة ونزهه عن الأخلاق المذمومة : فإنه لا يخزيه .

وكذلك قال النجاشي لما استخبرهم عما يخبر به واستقرأهم القرآن فقرؤوا عليه : إن هذا والذي جاء به موسى عليه السلام ليخرج من مشكاة واحدة . [ ص: 146 ] وكذلك ورقة ابن نوفل ، لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رآه ، وكان ورقة قد تنصر ، وكان يكتب الإنجيل بالعربية ، فقالت له خديجة : أي عم ، اسمع من ابن أخيك ما يقول ، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى فقال : هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى .

وكذلك هرقل ملك الروم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام ، طلب من كان هناك من العرب ، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى الشام ، وسألهم عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأل أبا سفيان ، وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه ، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الأخبار ، سألهم : هل كان في آبائه من ملك ؟ فقالوا : لا ، قال : هل قال هذا القول أحد قبله ؟ فقالوا : لا ، وسألهم : أهو ذو نسب فيكم ؟ فقالوا : نعم ، وسألهم : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فقالوا : لا ، ما جربنا عليه كذبا ، [ ص: 147 ] وسألهم : هل اتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم ؟ فذكروا أن الضعفاء اتبعوه ؟ وسألهم : هل يزيدون أم ينقصون ؟ فذكروا أنهم يزيدون ، وسألهم : هل يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه ؟ فقالوا : لا ، وسألهم : هل قاتلتموه ؟ قالوا : نعم ، وسألهم عن الحرب بينهم وبينه ؟ فقالوا : يدال علينا مرة وندال عليه أخرى ، وسألهم : هل يغدر ؟ فذكروا أنه لا يغدر ، وسألهم : بماذا يأمركم ؟ فقالوا : يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا ، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة . وهذه أكثر من عشر مسائل ، ثم بين لهم ما في هذه المسائل من الأدلة ، فقال : سألتكم هل كان في آبائه من ملك ؟ فقلتم : لا ، قلت : لو كان في آبائه من ملك لقلت : رجل يطلب ملك أبيه ، وسألتكم هل قال هذا القول فيكم أحد قبله ؟ فقلتم : لا ، فقلت : لو قال هذا القول أحد قبله لقلت : رجل ائتم بقول قيل قبله ، وسألتكم هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فقلتم : [ ص: 148 ] لا ، فقلت : قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله ، وسألتكم أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم ؟ فقلتم : ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل ، يعني في أول أمرهم ، ثم قال : وسألتكم هل يزيدون أم ينقصون ؟ فقلتم ، بل يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم ، وسألتكم هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه ؟ فقلتم : لا ، وكذلك الإيمان ، إذا خالطت بشاشتة القلوب لا يسخطه أحد .

وهذا من أعظم علامات الصدق والحق ، فإن الكذب والباطل لا بد أن ينكشف في آخر الأمر ، فيرجع عنه أصحابه ، ويمتنع عنه من لم يدخل فيه ، والكذب لا يروج إلا قليلا ثم ينكشف .

وسألتكم كيف الحرب بينكم وبينه ؟ فقلتم : إنها دول ، وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها ، قال : وسألتكم هل يغدر ؟ فقلتم : لا ، وكذلك الرسل لا تغدر ، [ ص: 149 ] وهو لما كان عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم وأنهم لا يغدرون - علم أن هذه علامات الرسل ، وأن سنة الله في الأنبياء والمؤمنين أن يبتليهم بالسراء والضراء ، لينالوا درجة الشكر والصبر .

كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : والذي نفسي بيده ، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له .

والله تعالى قد بين في القرآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة فقال : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ( آل عمران : 139 ) ، الآيات . وقال تعالى : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ( العنكبوت : 1 - 2 ) ، [ ص: 150 ] الآيات . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على سنته في خلقه وحكمته التي بهرت العقول .

قال : وسألتكم عما يأمر به ؟ فذكرتم أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة ، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم ، وهذه صفة نبي ، وقد كنت أعلم أن نبيا يبعث ، ولم أكن أظنه منكم ، ولوددت أني أخلص إليه ، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه ، وإن يكن ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين . وكان المخاطب بذلك أبو سفيان بن حرب ، وهو حينئذ كافر من أشد الناس بغضا وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال أبو سفيان بن حرب : فقلت لأصحابي ونحن خروج ، لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، إنه ليعظمه ملك بني الأصفر ، وما زلت موقنا بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر ، حتى أدخل الله علي الإسلام وأنا كاره .

ومما ينبغي أن يعرف : أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور ، قد لا يستقل بعضها به ، بل ما يحصل للإنسان - من شبع وري وشكر وفرح وغم - فأمور مجتمعة ، لا يحصل ببعضها ، لكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر .

وكذلك العلم بخبر من الأخبار ، فإن خبر الواحد يحصل للقلب [ ص: 151 ] نوع ظن ، ثم الآخر يقويه ، إلى أن ينتهي إلى العلم ، حتى يتزايد ويقوى . وكذلك الأدلة على الصدق والكذب ونحو ذلك .

وأيضا : فإن الله سبحانه أبقى في العالم الآثار الدالة على ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة ، وما فعله بمكذبيهم من العقوبة ، كتواتر الطوفان ، وإغراق فرعون وجنوده ، ولما ذكر سبحانه قصص الأنبياء نبيا بعد نبي ، في سورة الشعراء ، كقصة موسى وإبراهيم ونوح ومن بعده ، يقول في آخر كل قصة : إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( الشعراء : 67 - 68 ) .

وبالجملة : فالعلم بأنه كان في الأرض من يقول إنه رسول الله ، وأن أقواما اتبعوهم ، وأن أقواما خالفوهم ، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين ، وجعل العاقبة لهم ، وعاقب أعداءهم : هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها . ونقل أخبار هذه الأمور أظهر وأوضح من نقل أخبار من مضى من الأمم من ملوك الفرس وعلماء الطب ، كبقراط وجالينوس [ ص: 152 ] وبطليموس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وأتباعه .

ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر من أحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم - علمنا يقينا أنهم كانوا صادقين على الحق من وجوه متعددة : منها : أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أولئك وبقاء العاقبة لهم . ومنها : ما أحدثه الله لهم من نصرهم وإهلاك عدوهم ، إذا عرف الوجه الذي حصل عليه ، - كغرق فرعون وغرق قوم نوح وبقية أحوالهم - عرف صدق الرسل .

[ ص: 153 ] ومنها : أن من عرف ما جاءت به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها ، تبين له أنهم أعلم الخلق ، وأنه لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل ، وأن فيما جاءوا به من الرحمة والمصلحة والهدى والخير ودلالة الخلق على ما ينفعهم ومنع ما يضرهم - ما يبين أنه لا يصدر إلا عن راحم بر يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق .

ولذكر دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات وبسطها موضع آخر ، وقد أفردها الناس بمصنفات ، كالبيهقي وغيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية