الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            الفوائد الممتازة في صلاة الجنازة

            بسم الله الرحمن الرحيم

            الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وقع السؤال عن الجنازة إذا صلى عليها أولا ، ثم حضر من لم يصل وصلى فهل تكون الصلاة الثانية فرضا أو نفلا ؟ فأجبت بأنها فرض هذا هو المنقول ، فسئلت عن تحرير ذلك من حيث النظر فإن ذلك مشكل ، فإن الفرض بالصلاة الأولى فكيف توصف الثانية بأنها فرض ؟ فوضعت هذه الكراسة لتحرير ذلك وسميتها : ( الفوائد الممتازة في صلاة الجنازة ) ونبدأ بذكر المنقول في ذلك قال الرافعي : إذا أقيمت صلاة الجنازة في جماعة ثم حضر آخرون فلهم أن يصلوا عليها أفرادا أو في جماعة أخرى وتكون صلاتهم فرضا في حقهم كما أنها فرض في حق الأولين ، بخلاف من صلاها مرة لا تستحب له إعادتها ، فإن المعاد يكون تطوعا ، وهذه [ ص: 97 ] الصلاة لا يتطوع فيها ، فإن كان قد صلى مرة وأعادها في جماعة لم تستحب أيضا في أظهر الوجهين ، ولا فرق بين أن يكون حضور الآخرين قبل الدفن أو بعده ولا يشترط ظهور الميت ، وخالف أبو حنيفة في الحالتين ، أما قبل الدفن فلأن عنده لا يصلى على الجنازة مرتين ، وأما بعده فلأن عنده لا يصلى على القبر إلا إذا دفن ولم يصل عليه ، وساعد أبا حنيفة مالك في الفصلين - هذا كلام الرافعي ، وقال النووي في شرح المهذب : إذا صلى على الجنازة جماعة أو واحد ثم صلت عليه طائفة أخرى فصلاة الجميع تقع فرضا ، قال صاحب التتمة : تنوي الطائفة الثانية بصلاتهم الفرض لأن فعل غيرهم أسقط عنهم الحرج لا الفرض ، وبسط إمام الحرمين هذا بسطا حسنا ، فقال : إذا صلى على الميت جمع يقع الاكتفاء ببعضهم ، فالذي ذهب إليه الأئمة أن صلاة كل واحد منهم تقع فريضة ، إذ ليس بعضهم بأولى بوصفه بالقيام بالفرض من بعضهم ، فوجب الحكم بالفرضية للجميع ، قال : ويحتمل أن يقال هو كإيصال المتوضئ الماء إلى رأسه دفعة ، وقد اختلفوا في أن الجميع فرض أم الفرض ما يقع عليه الاسم فقط ، ولكن قد يتخيل الفطن فرقا ويقول مرتبة الفرضية فوق مرتبة السنة ، وكل مصل في الجمع الكثير ينبغي أن لا يحرم رتبة الفرضية وقد قام بما أمر به ، وهذا لطيف لا يقع مثله في المسح ، قال : ثم قال الأئمة إذا صلت طائفة ثانية كان كصلاتهم مع الأولين في جماعة واحدة - هذا كلام إمام الحرمين وأقره في شرح المهذب ، وقال في شرح المهذب قبل ذلك ما نصه : إذا حضر بعد الصلاة عليه إنسان لم يكن صلى عليه أو جماعة صلوا عليه وكانت صلاتهم فرض كفاية بلا خلاف عندنا ، وقال أبو حنيفة : لا يصلي عليه طائفة ثانية لأنه لا يتنفل بصلاة الجنازة فلا يصليها طائفة بعد طائفة ، والجواب منع كون صلاة الثانية نافلة بل هي عندنا فرض كفاية ، قال : فإن قيل كيف تقع صلاة الطائفة الثانية فرضا ولو تركوها لم يأثموا وليس هذا شأن الفروض ؟ فالجواب أنه قد يكون ابتداء الشيء ليس بفرض ، فإذا دخل فيه صار فرضا كما إذا دخل في حج التطوع وكما في الواجب على التخيير بخصال الكفارة ، ولأن الطائفة الأولى لو كانت ألفا أو ألوفا وقعت صلاة جميعهم فرضا بالاتفاق ، ومعلوم أن الفرض كان يسقط ببعضهم ولا يقول أحد : إن الفرض يسقط بأربعة منهم على الإبهام والباقون متنفلون ، قال : فإن قيل قد وقع في كلام كثير من الأصحاب أن فرض الكفاية إذا فعله من تحصل به الكفاية سقط الفرض عن الباقين ، وإذا سقط الفرض عنه كيف قلتم تقع صلاة الثانية فرضا ؟ فالجواب أن عبارة المحققين سقط الحرج [ ص: 98 ] عن الباقين أي لا حرج عليهم في ترك هذا الفعل ، فلو فعلوه وقع فرضا كما لو فعلوه مع الأولين دفعة واحدة ، وأما عبارة من يقول : سقط الفرض عن الباقين فمعناه سقط حرج الفرض - هذا كلام شرح المهذب ، وقال ابن الصباغ في الشامل : إذا صلي على الجنازة مرة جاز أن يصلى عليها مرة أخرى ، وبه قال علي بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري وابن عمر وعائشة وإليه ذهب الأوزاعي وأحمد وقال النخعي ومالك وأبو حنيفة : لا يصلى على الجنازة مرتين إلا أن يكون الولي غائبا فيصلي غيره فيعيدها الولي ، واحتجوا بأن الصلاة الأولى قد سقط بها الفرض ، فلو صلى ثانيا لكان تطوعا ، والصلاة على الميت لا يتطوع بها ، ألا ترى أن من صلى لا يكررها ، قال : وهذا منقوض بقولهم في الولي زاد في التتمة لأن كل حالة جاز للولي أن يصلي فيها على الميت جاز لغيره قياسا على ما قبل الصلاة ، وقال في التتمة : إذا صلى على الجنازة قوم ثم جاءت جماعة أخرى وأرادوا الصلاة ينوون صلاة الفرض لأن فعل الغير ما أسقط الفرض عنه وإنما أسقط الحرج عنه .

            وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابه النكت في الخلاف : مسألة يجوز لمن لم يصل على الميت مع الإمام أن يصلي عليه ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز ، دليلنا أن سكينة ماتت ليلا فكرهوا أن يوقظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفنوها ثم أخبر بذلك ، فخرج بهم وصلى على قبرها ، فإن قيل في عهده صلى الله عليه وسلم لا يسقط الفرض إلا بصلاته ولهذا قال : ( لا يموتن فيكم ميت ما كنت بين أظهركم إلا آذنتموني به فإن صلاتي عليه رحمة له ) قيل : لو كان كذلك لأعلمه الناس وكانوا لا يصلون وإنما ندبهم إلى إعلامه لبركة دعائه ، ولهذا قال : ( فإن صلاتي عليكم رحمة ) ولم يقل إن الفرض لم يسقط ، ولأن من جاز له أن يصلي على الميت مع الناس جاز له بعد صلاتهم كالولي ، فإن قيل : الولي له حق التقدم ، قيل له حق قبل سقوط الفرض ، فأما بعده فلا ، ولهذا لا تجب إعادتها ، قالوا : لو جاز ذلك لصلى على النبي صلى الله عليه وسلم من قدم بعد موته كمعاذ وغيره ، قلنا : هذا حجة لأنه قد صلي عليه ثلاثة أيام ، وإنما لم تجز على قبره لأنه قال عليه السلام : ( لا تتخذوا قبري مسجدا ) فإن قالوا سقط فرض الصلاة فلا يصلى عليه كمن صلى مرة ، قلنا : ينكر ممن صلى الظهر ثم أدرك جماعة ، والأصل غير مسلم ، ثم ذاك سقط الفرض بفعله حقيقة ، وهاهنا سقط الفرض عنه حكما ، فجاز أن يأتي بالعزيمة كالمسافر في الرخص ، لأن من رد السلام مرة لا يرد مرة أخرى ، ومن لم يرد يجوز أن يرد - هذا كلام الشيخ أبي إسحاق بحروفه .

            [ ص: 99 ] وقد تلخص مما سقناه من النقول عدة مسالك في التعليل ، المسلك الأول : القياس على فعل الطائفة الأولى . والمسلك الثاني : القياس على أفراد الطائفة الأولى إذا كانت عددا كثيرا زيادة عما يسقط الفرض ، فإن فعل كل واحد واحد منهم يوصف بأنه فرض بالاتفاق ، ولا يقال إن الفرض فعل بعض منهم والباقي نفل ، لأن ذلك تحكم ؛ إذ ليس بعضهم بأولى بالوصف بالفرضية من بعض . المسلك الثالث : القياس على حج التطوع فإنه يكون ابتداؤه ليس بفرض ، فإذا دخل فيه صار فرضا ، ولا يستنكر هذا فله نظير في الجهاد ، فإن من لم يتعين عليه القتال إذا شرع فيه وحضر الصف تعين عليه وحرم عليه الانصراف . المسلك الرابع : القياس على المكفر إذا أتى بجميع خصال الكفارة على الترتيب فإنه يثاب على الكل ثواب الواجب مع أن الوجوب سقط بالخصلة الأولى ، وإنما قلنا في صورة المكفر : أنه يثاب على الجميع ثواب الواجب ; لأنه لو اقتصر على فرد منها لا يثاب عليه ثواب الواجب ، فانضمام غيره إليه لا ينقصه عنه . المسلك الخامس : القياس على رد السلام ، فإنه إذا رد واحد جاز لغيره أن يرد ويكون قبله فرضا ولا يوصف بأنه نفل ؛ لأن رد السلام لا تطوع فيه . المسلك السادس : منع قول الخصوم أن الفرض سقط بالأولين وإنما الساقط حرجه لا هو ، ففرق بين سقوط الحرج الذي كان يلحق الأمة لو ترك وبين سقوط الفرض . المسلك السابع : أن يقال على تقدير تسليم سقوط الفرض فرق بين سقوطه حقيقة وبين سقوطه حكما ، وفعل الأولين إنما أسقط الفرض عن غيرهم حكما ولم يسقطه حقيقة ، وإنما يسقط عنهم حقيقة بفعلهم هم ، فإذا فعلوه ثانيا سقط عنهم حقيقة ، فوصف فعلهم بأنه أسقط الفرض عنهم حقيقة ، وهذا المسلك عندي أقوى المسالك وأدقها وأقطعها للنزاع ، وكيف لا يكون كذلك وهو مسلك الشيخ أبي إسحاق إمام عصره في المناظرة والجدل غير مدافع . المسلك الثامن : القياس على من صلى الظهر ثم أعادها في جماعة ، فإن أحد الأقوال فيها أنهما جميعا يقعان عن الفرض ، ومن قال : إن الفرض الأولى قال إنه ينوي بالثانية الفرض فكذلك صلاة الجنازة . المسلك التاسع : تقرير قاعدة مهمة وذلك أن فرض الكفاية اختلف هل هو واجب على البعض من أول وهلة ؟ أو واجب على الكل ويسقط بفعل البعض ؟ فإن قلنا : هو واجب على البعض فذلك البعض المتصف بأنه واجب عليه هو الذي قام به ، سواء فعله واحد أو جمع على المعية أو على الترتيب ، وبهذا يتضح أن صلاة الطائفة الثانية توصف بالفرض قطعا ؛ لأن مجموع الطائفتين قد قام به ، وقد تقرر أن الفرض موجه [ ص: 100 ] على من قام به ، فلا سبيل إلى أن يبعض ويجعل فعل بعض من قام به فرضا وفعل بعضهم نفلا ، وإن قلنا : هو واجب على الكل فأوضح وأوضح ؛ لأن كل من صدر منه الفعل مخاطب بالوجوب وموصوف بأن الفرض توجه عليه ، فهو من هذه الجهة شبيه بفروض الأعيان من حيث توجهه على كل فرد فرد وإن اختلفا في وجوب المباشرة ، ومن توجه عليه فرض ففعله لا يقال أن فعله نفل بل هو فرض قطعا سبقه غيره إلى فعل مثله أو لا ، وهذا مسلك تحقيقي مبني على أصل قاعدة فرض الكفاية وكيفية توجهه ، والقولان فيه مشهوران ، والجمهور على الثاني ، وهو أنه واجب على الكل ويسقط بالبعض ، وممن رجحه من المتأخرين الإمام فخر الدين الرازي والشيخ تقي الدين السبكي .

            المسلك العاشر : قال ابن السبكي في رفع الحاجب : الأفعال قسمان ما تتكرر مصلحته بتكرره فهو على الأعيان كالظهر مثلا مصلحتها الخضوع وهو يتكرر بتكررها ، وما لا يتكرر فهو فرض الكفاية كإنقاذ الغريق وكسوة العاري ، ومن هنا يعلم أن المقصود من فرض العين الفاعلون وأفعالهم بطريق الأصالة ، وفي فرض الكفاية الغرض وقوع الفعل من غير نظر إلى فاعله ، وهذا معنى قول الغزالي في فرض الكفاية أنه كل مهم ديني يقصد الشرع حصوله ولا يقصد به عين من يتولاه ، قال : فإن قلت : كيف تستحبون صلاة الجنازة لمن لم يصلها مع حصول الفرض بالصلاة أو لا ؟ قلت : الغرض بالذات من صلاة الجنازة انتفاع الميت ، والدعاء سبب ، فمن لم يتحقق الانتفاع يستحب الصلاة ، إذ يحتمل أن الله تعالى لم يستجب دعاء الأولين ، وإنما لم نوجب إعادة الصلاة لئلا نوجب ما لا يتناهى ، إذ لسنا على يقين من الاستجابة في واحدة من الصلوات ، وأيضا فالاستجابة ليست في قدرتنا والتوصل إليها مرة واجب وبما زاد مستحب ، فإن قلت : قد قال الأصحاب : إن صلاة الطائفة الثانية تقع فرضا مع سقوط الحرج والإثم بالأولى فكيف تكون فرضا مع جواز تركها ؟ قلت : فرض الكفاية قسمان ، ما يحصل تمام المقصود منه أو لا ولا يقبل الزيادة كإنقاذ الغريق فهذا إذا وقع فعله لا يتصور وقوعه ثانيا ، وما يتجدد به مصلحة بتكرر الفاعل كالاشتغال بالعلم وصلاة الجنازة ، فهذا كل من أوقعه وقع فرضا ، فإن قلت : رد السلام فرض كفاية ، وقد قال الأصحاب : لو سلم على جماعة فأجاب الجميع كانوا كلهم مؤدين للفرض سواء أجابوا معا أم على التعاقب ، ومقتضى ما تقولون أن الفرض فيما إذا أجابوا على التعاقب الأول لحصول تمام المقصود به ، قلت : المقصود الذي من أجله شرع أصل السلام إلقاء المودة بين المسلمين على ما قال صلى الله عليه وسلم : ( ألا أدلكم [ ص: 101 ] على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم ) والمودة لا تحصل إلا بين المجيب والمبتدئ دون الساكت ، ولذلك يستحب للثاني الجواب فإذا أجاب وقع فرضا كما قلناه ، انتهى ما في رفع الحاجب .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية