الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 667 ] باب الوصية بثلث المال

( إذا أوصى بثلث ماله لزيد والآخر بثلث ماله ولم تجز ) الورثة فثلثه لهما نصفين اتفاقا ( وإن أوصى ) بثلث ماله لزيد و ( لآخر بسدس ماله فالثلث بينهما ) أثلاثا اتفاقا ( وإن أوصى لأحدهما بجميع ماله ولآخر بثلث ماله ولم تجز ) الورثة ذلك ( فثلثه بينهما نصفان ) لأن الوصية بأكثر من الثلث إذا لم تجز تقع باطلة فيجعل كأنه أوصى لكل بالثلث فينصف وقالا أرباعا لأن الباطل ما زاد على الثلث [ ص: 668 ] فاضرب الكل في الثلثين يحصل أربعة تجعل ثلث المال ( ولا يضرب الموصى له بأكثر من الثلث عند أبي حنيفة ) المراد بالضرب المصطلح بين الحساب فعنده سهام الوصية اثنان فاضرب نصف كل في الثلث يكن سدسا فلكل سدس المال وعندهما أربعة كما قدمنا ( وإلا في ثلاث مسائل ) وهي ( المحاباة [ ص: 669 ] والسعاية والدراهم المرسلة ) أي المطلقة غير المقيدة بثلث أو نصف أو نحوهما ومن صور ذلك أن يوصي لرجل بألف درهم مثلا أو يحابيه في بيع بألف درهم أو يوصي بعتق عبد قيمته ألف درهم : وهي ثلثا ماله ولآخر بثلث ماله ولم تجز فالثلث بينهما أثلاثا إجماعا

التالي السابق


باب الوصية بثلث المال

في بعض النسخ بثلث ماله ( قوله ولم تجز ) أي لم تجز الورثة الوصيتين فإن أجازت فظاهر ( قوله فالثلث بينهما أثلاثا ) أي يقتسمانه على قدر حقهما لصاحب السدس سهم ، ولصاحب الثلث سهمان ، لأن كلا منهما يستحق بسبب صحيح .

والحاصل : أن كل واحدة من الوصايا إذا لم تزد على الثلث كثلث لواحد وسدس لآخر وربع لآخر ولم تجز الورثة يضرب في الثلث ، ولا يقسم الثلث سوية بينهم اتفاقا ما لم يستويا في سبب الاستحقاق كما في مسألة المتن الأولى ، وتمام ذلك في التتارخانية ( قوله ولم تجز الورثة ذلك ) فإن أجازوا فعندها يقسم الكل أرباعا ولا نص فيه عنه فقال أبو يوسف قياس قوله : أن يسدس بطريق المنازعة لأن الثلثين لصاحب الكل ، فكان نزاعهما في الثلث فنصف النصف الذي هو السدس لصاحب الثلث ، والباقي للآخر ، وقال الحسن : إن هذا تخريج قبيح لاستواء سهم صاحب الثلث في حال الإجازة وعدمها ، وهو السدس فالصحيح أن يربع بطريق المنازعة بأن يقسم الثلث أولا وهو أربعة من اثني عشر بينهما نصفين ، لأن إجازتهم غير مؤثرة في قدر الثلث ، وبقي الثلثان ثمانية أسهم يدعيهما صاحب الكل وسهمين منها صاحب الثلث ليتم له الثلث ، فتسليم الستة لصاحب الكل ويتنازعان في السهمين بنصفين ، فتحمل ثلاثة أسهم لصاحب الثلث ، والباقي للآخر كما في الحقائق وغيره قهستاني .

قلت : وعلى قولهما يلزم استواء حالتي الإجازة وعدمها ( قوله لأن الوصية بأكثر من الثلث إلخ ) أشار إلى أن قوله بجميع ماله غير قيد وأن المراد ما زاد على الثلث ، ولذا عبر في الملتقى بقوله ولو لأحدهما بثلثه وللآخر بثلثيه أو بنصفه أو بكله ينصف الثلث بينهما عنده وعندهما يثلث في الأول ويخمس خمسين وثلاثة أخماس في الثاني ويربع في الثالث ا هـ فالحكم عنده وهو التنصيف متحد في جميع صور الزائد على الثلث كلا أو غيره ، والأصل الذي بنيت عليه هذه المسائل هو قول المصنف ولا يضرب إلخ ( قوله : إذا لم تجز ) بالبناء للمجهول ( قوله : تقع باطلة ) ليس المراد بطلانها من أصلها وإلا لما استحق شيئا وإنما المراد بطلان الزائد بيان ذلك أن الموصي قصد شيئين الاستحقاق على الورثة فيما زاد على الثلث وتفضيل بعض أهل الوصايا على بعض . والثاني يثبت في ضمن الأول ، ولما بطل الأول لحق الورثة وعدم إجازتهم بطل ما في ضمنه وهو التفضيل ، فصار كأنه أوصى لكل منهما بالثلث فينصف الثلث بينهما كما لو أوصى لكل منهما به حقيقة ا هـ من العناية موضحا ( قوله : وقالا أرباعا ) أي يقسم الثلث بينهما أرباعا ( قوله : لأن الباطل ما زاد على الثلث ) يعني أن الباطل هو أحد الشيئين اللذين قصدهما الموصي ، وهو استحقاق الزائد على الثلث فإنه بطل لحق [ ص: 668 ] الورثة ، وأما الشيء الآخر وهو قصد الموصي تفضيل أحدهما على الآخر فلا مانع منه فقد جعل لصاحب الكل ثلاثة أمثال ما جعله لصاحب الثلث فيأخذ من ثلث المال بحصة ذلك الزائد بأن يقسم أرباعا ثلاثة منها لصاحب الكل وواحد للآخر ( قوله : فاضرب الكل في الثلثين ) صوابه في الثلث كما في بعض النسخ أي اضرب كل حظ في ثلث المال بأن تضرب ثلاثة أسهم حظ صاحب الكل في الثلث وسهما واحدا حظا لآخر الثلث يحصل أربعة أسهم ، تجعل ثلث المال ، يعطى للأول ثلاثة أرباع الثلث ، وللثاني ربعه وسيتضح ثم الصحيح قول الإمام كما في تصحيح العلامة قاسم والدر المنتقى عن المضمرات وغيره ( قوله : المراد بالضرب المصطلح بين الحساب ) وهو تحصيل عدد نسبته إلى أحد المضروبين كنسبة الآخر إلى الواحد ، وقوله : لا يضرب بالبناء للمعلوم مسندا مجازا إلى الموصى له والباء صلة الموصى له ، وصلة يضرب مع مفعوله محذوف ، تقديره : لا يضرب الموصى له بأكثر من الثلث عددا في عدد ، فلا يضرب ثلاثة أرباع في الثلث في هذه الصورة وتمامه في القهستاني .

وأقول : ضرب الكسور في مصطلح الحساب على معنى خذ ، فإذا قيل اضرب ربعا في ثلث فمعناه خذ ربع الثلث وهو واحد ومن اثني عشر فالمعنى هنا : لا يضرب الموصى له بأكثر من الثلث أي لا يؤخذ له من الثلث بحكم الوصية له بأكثر من الثلث لما مر من بطلان التفصيل ، فلا تجعل سهام الوصية أربعة كما جعلها الإمامان ، وإنما يؤخذ له من الثلث بحكم الوصية للثلث فقط بأن يجعل كأنه أوصى لكل بالثلث ، فيقسم الثلث بينهما نصفين ، وعلى هذا فالباء صلة يضرب ولا حذف فتدبر . ثم رأيت في غرر الأفكار التصريح بما ذكرته من معنى الضرب ويوافقه ما يأتي ( قوله فعنده سهام الوصية اثنان ) فلكل واحد النصف وهو سهم واحد ( قوله فاضرب نصف كل ) أي اضرب نصيب كل منهما وهو النصف في الثلث يكن سدسا ، لأنه الحاصل من ضرب نصف في ثلث على معنى الأخذ كما قدمناه ( قوله وعندهما أربعة ) بناء على أنه يضرب له عندهما بحكم الزائد ، فتجعل سهام الوصية أربعة كما قررناه سابقا لأحدهما الربع ، وللآخر ثلاثة أرباع ، قال صدر الشريعة وابن الكمال : فيضرب الربع في ثلث المال والربع في الثلث يكون ربع الثلث ثم لصاحب الكل ثلاثة من الأربعة وهي ثلاثة أرباع ، فيضرب ثلاثة الأرباع في الثلث بمعنى ثلاثة أرباع الثلث هذا معنى الضرب وقد تحير فيه كثير من العلماء ا هـ . [ تنبيه ]

على هذا الخلاف لو أوصى لرجل بعبد قيمته مثل ثلث ماله ولآخر بعبد قيمته مثل نصف ماله مثلا ، وتمامه في التتارخانية من الخامس ، ولو أوصى لرجل بسيف قيمته مثل سدس ماله ، ولآخر بسدس ماله ، وماله سوى السيف : خمسمائة ، فللثاني سدسها ، وللأول خمسة أسداس السيف وسدس السيف بينهما لأن منازعتهما في سدس السيف فقط فينتصف بينهما وهذا عند الإمام وتمام الكلام في المجمع وشروحه ( قوله إلا في ثلاث مسائل ) استثناء من قوله ولا يضرب إلخ ( قوله : المحاباة ) من الحباء أي العطاء ، مغرب ، وفسرها القهستاني بالنقصان عن قيمة المثل في الوصية بالبيع والزيادة على قيمته في الشراء .

وصورتها : أن يكون لرجل عبدان قيمة أحدهما ثلاثون ، والآخر ستون فأوصى بأن يباع الأول من زيد بعشرة ، والآخر من عمرو بعشرين ولا مال له سواهما فالوصية في حق زيد بعشرين ، وفي حق عمرو بأربعين [ ص: 669 ] فيقسم الثلث بينهما أثلاثا فيباع الأول من زيد بعشرين والعشرة وصية له ويباع الثاني من عمرو بأربعين والعشرون وصية له وإن كانت زائدة على الثلث ابن كمال ( قوله : والسعاية ) صورتها أعتق عبدين قيمتهما ما ذكر ولا مال له سواهما ، فالوصية للأول بثلث المال وللثاني بثلث المال فسهام الوصية بينهما أثلاث واحد للأول واثنان للثاني ، فيقسم الثلث بينهما كذلك فيعتق من الأول ثلثه ، وهو عشرة ويسعى في عشرين ، ويعتق من الثاني ثلثه وهو عشرون ، ويسعى في أربعين فيضرب كل بقدر وصيته وإن كان زائدا على الثلث ابن كمال ( قوله والدراهم المرسلة ) صورتها أوصى لزيد بثلاثين درهما ولآخر بستين درهما وماله تسعون يضرب كل بقدر وصيته فيضرب الأول الثلث في ثلث المال والثاني الثلثين في ثلث المال وإنما فرق أبو حنيفة بين هذه الصور وبين غيرها لأن الوصية إذا كانت مقدرة بما زاد على الثلث صريحا كالنصف والثلثين ، وغيرهما والشرع أبطل الوصية في الزائد يكون ذكره لغوا فلا تعتبر في حق الضرب ، بخلاف ما إذا لم تكن مقدرة بأنه أي شيء من المال كما في الصور المذكورة فإنه ليس في العبارة ما يكون مبطلا للوصية ، كما إذا أوصى بخمسين درهما ، واتفق أن ماله مائة درهم فإن الوصية لا تكون باطلة بالكلية ، لإمكان أن يظهر له مال فوق المائة وإذا لم تكن باطلة بالكلية تكون معتبرة في حق الضرب وهذا فرق دقيق أنيق ابن كمال ( قوله ومن صور ذلك إلخ ) أفاد به أنه لا يشترط أن تكون محاباة أو سعاية أو عتقا من جهتي الموصى لهما ، بل يكفي وجود ذلك من طرف ، ويكون بقدر ثلثي المال والموصى للطرف الآخر بثلث المال فليتأمل ط .

أقول : لكن هذا التصوير مشكل لما صرحوا به من أن العتق المنفذ في المرض والمحاباة المنجزة فيه مقدمان على سائر الوصايا كما مر ويأتي في الباب الآتي ( قوله : أو يحابيه ) أي في مرض الموت ح وقوله بألف درهم متعلق بيحابيه ( قوله : وهي ثلث ماله ) أي الألف درهم في المسائل الثلاث ح ، وذلك بأن يكون ماله ألفا وخمسمائة فأوصى بألف منها لفلان ، أو يكون له ثوب مثلا قيمته ذلك ، فأوصى بأن يحابي بألف وذلك بأن يباع بخمسمائة ومسألة العتق ظاهرة ( قوله : ولآخر بثلث ماله ) متعلق بالمسائل الثلاث ح ( قوله : فالثلث بينهما أثلاثا إجماعا ) تقريره ظاهر مما قدمناه




الخدمات العلمية