الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              879 [ 455 ] وعن معدان بن أبي طلحة : أن عمر بن الخطاب خطب يوم الجمعة ، فذكر نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر أبا بكر ، قال : إني رأيت كأن ديكا نقرني ثلاث نقرات ، وإني لا أراه إلا حضور أجلي ، وإن أقواما يأمرونني أن أستخلف ، وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته ، ولا الذي بعث به نبيه ، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض ، وإني قد علمت أن أقواما يطعنون في هذا الأمر ، أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام ، فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال ، ثم إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة ، ما راجعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء ما راجعته في الكلالة ، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه ، حتى طعن بإصبعه في صدري ، وقال : يا عمر ! ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء ؟ ، وإني إن أعش أقضي فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن .

                                                                                              ثم قال : اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار ، فإني إنما بعثتهم عليهم ليعدلوا عليهم ، وليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ، ويقسموا فيهم فيئهم ، ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمرهم . ثم إنكم أيها الناس ! تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين : هذا البصل والثوم ، لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به ، فأخرج إلى البقيع ، فمن أكلهما فليمتهما طبخا .


                                                                                              رواه أحمد (1 \ 28 و 48)، ومسلم (567)، وابن ماجه (2726) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقول عمر : إني رأيت كأن ديكا نقرني ثلاث نقرات : هذا الديك الذي أريه عمر مثال للعلج الذي قتله ، وهو أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة ، وكان مجوسيا ، وكان نجارا حدادا نقاشا ، وكان من شأنه ما ذكره البخاري وغيره ، وهو أنه وثب على عمر وهو في صلاة الصبح - بعد أن دخل عمر فيها - ، فطعنه ثلاث طعنات ، فصاح عمر : قتلني - أو أكلني - الكلب ، ظانا أنه كلب عضه ، فتناول عمر عبد الرحمن بن عوف ، فكمل الصلاة بالناس . ثم إن العلج وثب وفي يده سكين ذات طرفين ، لا يمر على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه ، حتى طعن ثلاثة عشر رجلا ، مات منهم تسعة ، - وقيل : سبعة - ، فطرح عليه رجل خميصة كانت عليه ، فلما رأى العلج أنه مأخوذ نحر نفسه ، وحز عبد الرحمن بن عوف رأسه ، وهو الذي كان طرح عليه الخميصة .

                                                                                              وقوله : إن أقواما يأمرونني أن أستخلف ، معنى الأمر هنا : العرض ، والتحضيض ، أو الفتيا : بأنه يجب عليه أن يستخلف ، وأنه مأمور بذلك من جهة الله تعالى . وظاهر هذا الأمر أنه إنما كان من هؤلاء الأقوام لما سمعوا من عمر تأويله لمنامه بحضور أجله ، وهذا قبل وقوع طعنه ، ويحتمل أن يكون هذا بعد أن [ ص: 170 ] طعن ، ويكون بعض الرواة ضم أحد الخبرين إلى الآخر ، وعلى هذا يدل مساق هذا الخبر .

                                                                                              وقوله : وإن الله لم يكن ليضيع دينه ، ولا خلافته ، ولا الذي بعث به نبيه - صلى الله عليه وسلم - ; إنما قال ذلك عمر رضي الله عنه ; لأنه قد علم مما قد فهمه من كتاب الله ، وسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن الله يستخلف المؤمنين في الأرض ، ويمكن لهم دينهم ، ويظهره على الدين كله ، فقال ذلك ثقة بوعد الله ، وتوكلا عليه .

                                                                                              والخلافة هنا : القيام بأمر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على نحو ما قام به محمد - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما .

                                                                                              وقوله : وإني قد علمت أن أقواما يطعنون في هذا الأمر ; إشارة إلى جعله الأمر شورى بين الستة الذين هم : عثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة ، والزبير ، وعلي ، وسعد بن أبي وقاص ، رضي الله عنهم .

                                                                                              وقوله : فإن فعلوا ذلك ; أي : إن أفشوا الطعن ، وعملوا على الخلاف في ذلك والمشاقة ، ولم يرضوا بالذين اخترتهم ، فأولئك عند الله الكفرة الضلال ، وظاهر هذا : أنه حكم بكفرهم ، وكأنه علم أنهم منافقون ، وعلى هذا يدل قوله : أنا ضربتهم بيدي على الإسلام ; يعني : أنهم إنما دخلوا في الإسلام على تلك الحال ، لم تنشرح صدورهم للإسلام ، وإنما تستروا بالإسلام ، وذلك حال المنافقين . ويحتمل أنهم لما فعلوا فعل الكفار من الخلاف ، وموافقة أهل الأهواء ، ومشاقة المسلمين ، أطلق عليهم ما يطلق على الكفار . وعلى هذا فيكون هذا الكفر من باب كفران النعم والحقوق .

                                                                                              [ ص: 171 ] وقوله : ثم إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة . تهمم عمر بالكلالة ; لأنها أشكلت عليه ; وذلك أنها نزلت فيها آيتان :

                                                                                              إحداهما : قوله تعالى : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة [ النساء : 12 ] وفيها إشكال من جهات ، ولذلك اختلف في الكلالة ما هي ؟ ففيها أربعة أقوال :

                                                                                              أحدها : أنها ما دون الوالد والولد ; قاله أبو بكر الصديق ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، في خلق كثير .

                                                                                              والثاني : أنها من لا ولد له ، وروي عن عمر أيضا ، وهو قول طاووس .

                                                                                              والثالث : أنها ما عدا الوالد ; قاله الحكم بن عيينة .

                                                                                              والرابع : أنها بنو العم الأباعد ; قاله ابن الأعرابي .

                                                                                              واختلف أيضا فيما يقع عليه الكلالة ، على ثلاثة أقوال :

                                                                                              أحدها : على الحي الوارث ; قاله ابن عمر .

                                                                                              والثاني : على الميت ; قاله السدي .

                                                                                              الثالث : على المال ; قاله عطاء .

                                                                                              واختلف أيضا فيما أخذت الكلالة منه على قولين :

                                                                                              أحدهما : أنها مأخوذة من الإكليل المحيط بالرأس ، فكأنها تكللت ; أي : أحاطت بالميت من كلا طرفيه ; ولذلك قال :


                                                                                              ورثتم قناة الملك لا عن كلالة عن ابني مناف عبد شمس وهاشم

                                                                                              [ ص: 172 ] وقال آخر :


                                                                                              وإن أبا المرء أحمى له ومولى الكلالة لا يغضب

                                                                                              والثاني : أنها مأخوذة من الكلال ، وهو الإعياء ، فكأنه يصل الميراث بالوارث بها عن بعد وإعياء ، فكأن الرحم كلت عن وارث قريب ; قال الأعشى :


                                                                                              فآليت لا أرثي لها عن كلالة ولا من وجى حتى تلاقي محمدا



                                                                                              ثم مقتضى هذه الآية الأولى : أن كل واحد من الأخوين له السدس ، سواء كان أحدهما ذكرا أو أنثى ، فإن كانوا أكثر اشتركوا في الثلث ، ومقتضى الآية الثانية : أن للأخت النصف ، وللاثنتين الثلثين ، ولم يبين في واحدة من الآيتين الأخوة ، هل هي لأم ، أو لأب ، أو لهما ، ثم إذا تنزلنا على أن الأخوة من الأولى للأم ، وفي الثانية للأب ، أو أشقاء ، فهل ذلك فرضهم إذا انفردوا ؟ أو يكون ذلك فرضهم وإن كان معهم بعض الورثة ؟ كل ذلك أمور مطلوبة ، والوصول إلى تحقيق تلك المطالب عسير ، وسنبين الصحيح من ذلك كله ، في الفرائض إن شاء الله تعالى .

                                                                                              فلما استشكلت على عمر هذه الوجوه تشوف إلى معرفتها بطريق يزيح له الإشكال ، فألح على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسؤال عن ذلك ، حتى ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدره ، وأغلظ عليه في ذلك ردعا له عن الإلحاح ; إذ كان قد نهى عن كثرة السؤال ، وتنبيها له على الاكتفاء بالبحث عما في الكتاب من ذلك ، وعلى أن الكتاب يبين بعضه بعضا . وقال الخطابي : يشبه أن يكون لم يفته ، ووكل الأمر إلى بيان الآية اعتمادا على علمه وفهمه ; ليتوصل إلى معرفتها بالاجتهاد . ولو كان السائل ممن لا فهم له ، لبين له البيان الشافي . قال : وإن الله أنزل في الكلالة آيتين : إحداهما في الشتاء ، وهي التي في أول سورة النساء ، وفيها إجمال وإبهام لا يكاد يبين المعنى من ظاهرها ، ثم أنزل الآية التي في آخر النساء في الصيف ، وفيها زيادة بيان .

                                                                                              [ ص: 173 ] وقوله : وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ . هذا يدل على أنه كان اتضح له وجه الصواب فيها ، وأنه كان قد استعمل فكره فيها ، حتى فهم ذلك ، وأنه أراد أن يوضح ذلك على غاية الإيضاح ، ولم يتمكن من ذلك في ذلك الوقت الحاضر ; للعوائق والموانع ، ثم فاجأته المنية - رضي الله عنه - ، ولم يرو عنه فيها شيء من ذلك ، لكن قد اهتدى علماء السلف لفهم الآيتين ، وأوضحوا ذلك ، فتبين الصبح لذي عينين ، وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى .

                                                                                              وقوله : فليمتهما طبخا ; أي : ليذهب رائحتهما ، ويكسرهما بالطبخ . وكسر قوة كل شيء إماتته وقتله ، ومنه قولهم : قتلت الخمر : إذا مزجتها بالماء وكسرتها . وقد تقدم القول في الخبيث ، وفي الشجر .




                                                                                              الخدمات العلمية