الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4173 - وعنه أن رجلا كان يأكل أكلا كثيرا ، فأسلم ، فكان يأكل قليلا ، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إن المؤمن يأكل في معى واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء " . رواه البخاري .

التالي السابق


4173 - ( وعنه ) : أي عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - ( أن رجلا ) : أي من الكفار ( كان يأكل أكلا كثيرا ) : أي زائدا على عادة أكثر الناس ( فأسلم ، وكان ) : بالواو في الأصول المعتمدة . وكان مقتضى القياس أن يكون بالفاء أي فكان بعد ما أسلم ( يأكل قليلا ) : أي شيئا قليلا أو أكلا قليلا ، أي بالنسبة إلى الأول أو قليلا بالمرة كما هو عادة المرتاضين أو قليلا عرفيا على دأب غالب المؤمنين من حد الاعتدال ، ( فذكر ذلك ) : أي تقليل أكله بعد إسلامه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( إن المؤمن يأكل في معى واحد ) : بكسر الميم منونا ويكتب بالياء ، ففي القاموس : المعنى بالفتح وكإلى من أعفاج البطن ، وقد يؤنث والجمع أمعاء ( والكافر ) : بالنصب ويجوز رفعه ( يأكل في سبعة أمعاء ) : اعلم أنه ليس للكافر زيادة أمعاء بالنسبة إلى المؤمن ، فلا بد من تأويل الحديث ، فقال القاضي : أراد به أن المؤمن يقلل حرصه وشرهه على الطعام ، ويبارك له في مأكله ومشربه ، فيشبع من قليل . والكافر يكون كثير الحرص شديد الشره ، لا مطمح لبصره إلا إلى المطاعم والمشارب كالأنعام ، فمثل ما بينهما من التفاوت في الشره . بما بين من يأكل في معى واحد ، وبين من يأكل في سبعة أمعاء ، وهذا باعتبار الأعم الأغلب .

وقال النووي : فيه وجوه : أحدها : أنه قيل في رجل بعينه فقيل له على جهة التمثيل يعني فلام المؤمن للعهد . وثانيها : أن المؤمن يسمي الله تعالى عند طعامه فلا يشركه فيه الشيطان ، والكافر لا يسميه فيشاركه الشيطان .

[ ص: 2698 ] وثالثها : أن المؤمن يقتصد في أكله فيشبعه امتلاء بعض أمعائه ، والكافر لشرهه وحرصه على الطعام لا يكفيه إلا ملء كل الأمعاء . ورابعها : يحتمل أن يكون هذا في بعض المؤمنين وبعض الكفار . وخامسها : أن يراد بالسبعة صفات الحرص والشره وطول الأمل والطمع ، وسوء الطبع والحشد والسمن . وسادسها : أن يراد بالمؤمن تام الإيمان المعرض عن الشهوات المقتصر على سد خلته . وسابعها وهو المختار : أن بعض المؤمنين يأكل في معى واحد ، وأن أكثر الكفار يأكلون في سبعة ، ولا يلزم أن كل واحد من السبعة مثل معى المؤمن . اهـ . وفي كونه هو المختار نظر ظاهر للنظار ، واختار السيوطي في معناه أن المؤمن يبارك له في طعامه ببركة التسمية حتى تقع النسبة بينه وبين الكافر ، كنسبة من يأكل في سبعة أمعاء . اهـ .

ويتحقق ذلك المعنى إذا قدرت ذلك في شخص واحد ، أو في أشخاص متماثلين من حيث الوضع ، فتجد حال ذلك الواحد في الأكل وهو الكافر خلاف حاله وهو مؤمن ، وكذلك في الأشخاص ، وإلا فقد يوجد في المؤمنين من يزداد شهوته في الأكل على الكافر ، ويؤيده ما في نفس هذا الحديث ، وكذا فيما يليه من حديث ضافه ضيف كافر على ما سيأتي ، وقيل : معناه يأكل الكافر في سبعة أمثال أكل المؤمن ، أي يكون شهوته أمثال شهوة المؤمن ، فتكون الأمعاء كناية عن الشهوات ، أو المراد أن المؤمن لا يأكل إلا من جهة واحدة وهي مجرد الحلال ، والكافر يأكل من جهات مختلفة مشوبة وهي سبع : الغارة والغضب والسرقة والبيع الفاسد والربا والخيانة والحلال ، وقيل : هذا عبارة عن كثرة الأكل وقلته أي خلق المؤمن قلة الأكل ، وخلق الكافر كثرته . يعني أن المراد بالسبعة التكثير ، وقيل : هذا مثل ضربه - صلى الله عليه وسلم - لزهد المؤمن في الدنيا وحرص الكافر عليها ، فهذا يأكل بلغة وقوتا فيشبعه القليل ، وذاك يأكل شهوة وحرصا فلا يكفيه الكثير . وهذا القول اختاره الطيبي حيث قال : جماع القول أن من شأن الكامل إيمانه أن يحرص في الزهادة وقلة الغذاء ، ويقنع بالبلغة بخلاف الكافر ، فإذا وجد المؤمن والكافر على خلاف هذا فلا يقدح في الحديث كقوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين

وفي شرح مسلم للنووي قالوا : مقصود الحديث التقلل من الدنيا والحث على الزهد فيها والقناعة ، مع أن قلة الأكل من محاسن أخلاق الرجال ، وكثرة الأكل بضدها ، وأما قول ابن عمر في المسكين الذي أكل عنده كثيرا : لا يدخل هذا علي ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن المؤمن يأكل " الحديث كما في البخاري ، إنما قال هذا لأنه أشبه الكفار ، ومن أشبه الكفار كرهت مخالطته لغير حاجة أو ضرورة ، هذا وقد قال الطيبي في قوله في سبعة أمعاء " عدي الأكل بفي على معنى أوقع الأكل فيها ، وجعلها أمكنة للمأكول ليشعر بامتلائها كلها ، حتى لم يبق للنفس فيه مجال كقوله تعالى : إنما يأكلون في بطونهم نارا أي ملء بطونهم ، وتخصيص السبعة للمبالغة والتكثير ، كما في قوله تعالى : والبحر يمده من بعده سبعة أبحر اهـ .

ويعني أن المؤمن ثلث بطنه للأكل ، وثلثه للشرب ، وثلثه للنفس ، وأما مذهب القلندرية المشابهة بالكفرة ، فإنهم يقولون : نحن نملأ البطن من الأكل ، ويحصل الماء مكانه ، والنفس إن أحب يطلع وإلا فلا ، وقد قال تعالى ردا عليهم : وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ( رواه البخاري ) وكذا أحمد ، والترمذي ، والنسائي عن ابن عمر ، وأحمد ومسلم عن جابر ، وأحمد والشيخان وابن ماجه عن أبي هريرة ، ومسلم وابن ماجه عن أبي موسى .




الخدمات العلمية