الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم

                                                          هذا حكم الله تعالى فيهم في الدنيا والآخرة، فقد خسروا أنفسهم وأولادهم وأموالهم في الدنيا، ونالوا العذاب الدائم في الآخرة بافترائهم على الله بزعمهم أن ذلك بأمر من الله، أو رضا منه، والافتراء على الله تعالى عاقبته عذاب أليم، وقوله تعالى: سفها أي: بخفة عقول وجهل، ولا علم ولا سبب للعلم.

                                                          وأي سفه وخفة عقل وعدم تفكير أقبح من أن يقتلوا أولادهم من إملاق أو خشية إملاق، وفي الوقت نفسه يحرمون بعض أموالهم على أنفسهم، كتحريمهم البحيرة والسائبة والحام والوصيلة، إنه جهل مبين، وعقل سفيه، لا إدراك فيه، وينسبون ذلك إلى الله من غير علم.

                                                          إن الخسارة في الدنيا واضحة، خسروا أولادهم الذين هم فلذات أكبادهم بوأدهم أو قتلهم من إملاق أو خشية إملاق، وخسروا أموالهم التي حرموها على أنفسهم بأوهامهم، وأنفقوها إسرافا وبدارا على خدمة أوثانهم، وخسروا إيمانهم؛ إذ أشركوا بالله وافتروا، وأنهم حرموا بالوهم الفاسد، وزعموا أن ذلك تحريم من الله تعالى، وخسروا الحق في ذاته، وأثموا إثما عظيما، مع قتل الأولاد.

                                                          وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله هذا هو الأمر الثاني الذي خسروه، أو كان فيه خسرانهم، بأن رزقهم رزقا، فجعلوا منه حراما، فخسروا ولم ينتفعوا بنعمة الله التي أنعمها، وافتروا على الله، فقالوا بزعمهم الكاذب: إن الله تعالى هو الذي حرمها، وبذلك حكموا أوهامهم فخسروا عقولهم، وسيطرت عليهم أوهام بثها فيهم الشياطين فهم في تحريم ما رزقهم ارتكبوا إثمين: إثم التحريم، وإثم نسبته إلى الله تعالى افتراء عليه، ولذلك كان الخسران في الدنيا، والعقاب في الآخرة، والضلال المبين؛ ولذا قال تعالى: [ ص: 2696 ] قد ضلوا وما كانوا مهتدين

                                                          حكم الله تعالى عليهم حكمين وأكدهما: أولهما: الحكم عليهم بأنهم وقعوا في الضلال والبعد عن الحقيقة، وقد أكد الضلال بقد؛ لأن (قد) تكون في القرآن للتحقيق، سواء أدخلت على الماضي أم على المضارع، فلا يكاد في القرآن استعمالها إلا للتحقيق، فلا تكون للتقريب، ولا تكون للتكثير أو التقليل.

                                                          فالله قد أكد ضلالهم، وأي ضلال أشد من أن يقتلوا أولادهم للإملاق، وفي الوقت نفسه يمنعون ما رزقهم فيقعون في الإملاق.

                                                          الحكم الثاني أنه سبحانه حكم بأنهم ما كانوا مهتدين، فبين في الحكم ضلالهم وبين في الحكم أنه ليس من شأنهم أن يهتدوا، ولذلك نفى وصف الاعتداء، وأكد ذلك النفي بالجملة الاسمية، وبنفي الوصف عنهم.

                                                          ونقول هنا: إننا بينا أن الخسران في الدنيا والآخرة، وهو في الدنيا واضح بين، وفي الآخرة مؤكد، وقد رأينا بعض المفسرين يقولون: إن الخسارة هي في الآخرة لا في الدنيا، واستدل بقوله تعالى في سورة يونس: قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون

                                                          ولكنا لا نراها تدل على أن الخسارة في الآخرة فقط، وفوق ذلك إن الآية السامية التي نتكلم في معناها السامي، قد شملت قتل الأولاد وتحريم ما رزق الله تعالى افتراء، أما هذه الآية التي ساقها المفسر الفاضل فإنها في اتخاذ الولد ونسبته إلى الله بدليل الآية التي قبلها، إذ يقول الله تعالى: قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب إلى آخر الآية الكريمة.

                                                          فكان بمقتضى النسق البياني للقرآن أن يكون العقاب الأخروي. أما في الآية التي نتكلم في معناها فواضح أنهم خسروا في الدنيا بقتل أولادهم سفها بغير علم، وتحريم ما أحل الله تعالى وافتراء على الله تعالى.

                                                          [ ص: 2697 ] وإنه من أقبح ما يتصور الإنسان من سفه الأحلام قتل أولادهم، وخصوصا وأد البنات، إنهم خسروا بذلك خسرانا مبينا.

                                                          وقد جاء في تفسير القرطبي: روي أن رجلا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما لك تكون محزونا؟ فقال: يا رسول الله، إني أذنبت ذنبا في الجاهلية، فأخاف ألا يغفره الله وإن أسلمت، فقال -صلى الله عليه وسلم-: أخبرني عن ذنبك، قال: يا رسول الله، إني كنت من - الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت فتشفعت إلي امرأتي أن أتركها، فتركتها، حتى كبرت وأدركت، وصارت من أجمل النساء، فخطبوها، فدخلتني الحمية، ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج، فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا في زيارة أقربائي، فابعثيها معي، فسرت بذلك، وزينتها بالثياب والحلي، وأخذت علي المواثيق بألا أخونها، فذهبت إلى رأس بئر، فنظرت في البئر ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر، فالتزمتني، وجعلت تبكي وتقول: يا أبت، أيش تريد أن تفعل بي، فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت، لا تضيع أمانة أمي، فجعلت مرة أنظر في البئر، ومرة أنظر إليها أرحمها، حتى غلبني الشيطان، فأخذتها وألقيتها في البئر معكوسة، وهي تنادي في البئر: يا أبت، قتلتني، فكنت هناك حتى انقطع صوتها، فرجعت، فبكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه وقال: "إن الله لرءوف، لو أمرت أن أعاقب أحدا بما كان في الجاهلية لعاقبتك". هذه قصة مثيرة، ولا بد أنها كانت تقع من الجاهليين، سواء أصحت هذه الرواية بالذات أم لم تصح، فكيف لا تكون الخسارة في الدنيا بهذا الطيش الجاهل، رحم الله أمثال هذه الفتيات.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية