الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولنقبض عنان الكلام عن هذا النمط فإنه مجال لا آخر له ، ولو استقصينا أعمارا طويلة لم نقدر على شرح ما تفضل الله تعالى علينا بمعرفته ، وكل ما عرفناه قليل نزر حقير بالإضافة إلى ما عرفه جملة العلماء والأولياء وما عرفوه قليل نزر حقير بالإضافة إلى ما عرفه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وجملة ما عرفوه قليل بالإضافة إلى ما عرفه محمد نبينا صلى الله عليه وسلم ، وما عرفه الأنبياء كلهم قليل بالإضافة إلى ما عرفته الملائكة المقربون كإسرافيل ، وجبريل ، وغيرهما ثم جميع علوم الملائكة ، والجن ، والإنس ، إذا أضيف إلى علم الله سبحانه وتعالى لم يستحق أن يسمى علما ، بل هو إلى أن يسمى دهشا وحيرة وقصورا وعجزا أقرب .

فسبحان من عرف عباده ما عرف ثم خاطب جميعهم فقال : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .

فهذا بيان معاقد الجمل التي تجول فيها فكر المتفكرين في خلق الله تعالى ، وليس فيها فكر في ذات الله تعالى ولكن يستفاد من الفكر في الخلق لا محالة معرفة الخالق وعظمته ، وجلاله وقدرته وكلما استكثرت من معرفة عجيب صنع الله تعالى كانت معرفتك بجلاله وعظمته أتم .

وهذا كما أنك تعظم عالما بسبب معرفتك بعلمه ، فلا تزال تطلع على غريبة غريبة من تصنيفه أو شعره فتزداد به معرفة ، وتزداد بحسنه له توقيرا وتعظيما واحتراما ، حتى إن كل كلمة من كلماته ، وكل بيت عجيب من أبيات شعره ، يزيده محلا من قلبك يستدعي ، التعظيم له في نفسك .

فهكذا تأمل في خلق الله تعالى وتصنيفه وتأليفه ، وكل ما في الوجود من خلق الله وتصنيفه والنظر والفكر فيه لا يتناهى أبدا ، وإنما لكل عبد .

منها بقدر ما رزق فلنقتصر على ما ذكرناه ، ولنضف إلى هذا ما فصلناه في كتاب الشكر فإنا ، نظرنا في ذلك الكتاب في فعل الله تعالى من حيث هو إحسان إلينا وإنعام علينا .

وفي ، هذا الكتاب نظرنا فيه من حيث أنه فعل الله فقط وكل ما نظرنا فيه فإن الطبيعي ينظر فيه ويكون نظره سبب ضلاله وشقاوته والموفق ينظر فيه فيكون سبب هدايته وسعادته .

وما من ذرة في السماء والأرض إلا والله سبحانه وتعالى يضل بها من يشاء ، ويهدي بها من يشاء ، فمن نظر في هذه الأمور من حيث إنها فعل الله تعالى وصنعه استفاد منه المعرفة بجلال الله تعالى وعظمته واهتدى به ومن نظر فيها قاصرا للنظر عليها من حيث تأثير بعضها في بعض لا من حيث ارتباطها بمسبب الأسباب فقد شقي وارتدى فنعوذ بالله من الضلال ، ونسأله أن يجنبنا مزلة أقدام الجهال بمنه وكرمه وفضله وجوده ورحمته .

تم الكتاب التاسع من ربع المنجيات والحمد لله وحده وصلواته على محمد وآله وسلامه يتلوه كتاب ذكر الموت وما بعده وبه كمل جميع الديوان بحمد الله تعالى وكرمه .

التالي السابق


(ولنقبض عنان الكلام على هذا النمط فإنه مجال ) واسع (لا آخر له، ولو استقصينا أعمارا طويلة لم نقدر على شرح ما تفضل الله علينا بمعرفته، وكل ما عرفناه ) فهو (قليل نزر حقير بالإضافة إلى ما عرفه جملة العلماء والأولياء ) والصالحين; (وما عرفوه ) فهو (قليل نزر حقير بالإضافة إلى ما عرفه الأنبياء ) عليهم السلام، (وجملة ما عرفوه ) فهو (قليل بالإضافة إلى ما عرفه محمد نبينا صلى الله عليه وسلم، وما عرفه الأنبياء كلهم فهو قليل بالإضافة إلى ما عرفته الملائكة المقربون ) في حضرة القدس (كإسرافيل، وجبريل، وغيرهما ) عليهم السلام. وهذا يشعر بتفضيل الملائكة على الأنبياء، وهو مذهب المصنف، ولأئمة السنة فيه خلاف مبسوط في محله. (ثم جميع علوم الملائكة، والجن، والإنس، إذا أضيف إلى علم الله سبحانه لم يستحق أن يسمى علما، بل هو إلى أن يسمى دهشا وحيرة وقصورا وعجزا أقرب ) إذ لا يعرف أحد حقيقة علم الله تعالى إلا من له مثل علمه، وليس ذلك إلا له تعالى، فلا يعرفه سواه تعالى وتقدس، وإنما يعرفه غيره بالتشبيه بعلم نفسه، وعلم الله تعالى لا يشبهه علم الخلق البتة، فلا تكون معرفته به معرفة تامة حقيقة أصلا بل إيهامية، تشبيهية، فنهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة، ومعرفتهم بالحقيقة هي أنهم لا يعرفونه، وأنهم لا يمكنهم معرفته البتة، وأنه يستحيل أن يعرف المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفات الربوبية إلا الله تعالى .

(فسبحان من عرف عباده ما عرف ثم خاطب جميعهم فقال: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) فإذا لا يحيط مخلوق من ملاحظة حقيقة ذاته إلا بالحيرة والدهشة. (فهذا بيان معاقد الجمل التي يجول فيها فكر المتفكرين في خلق الله تعالى، وليس فيها فكر في ذات الله تعالى ) . وقال صاحب القاموس في البصائر نقلا عن المشايخ: "الفكرة فكرتان: فكرة تتعلق بالعلم والمعرفة، وفكرة تتعلق بالطلب والإرادة، فالتي تتعلق بالعلم والمعرفة فكرة الضمير بين الحق والباطل والثابت والمنفي، والفكرة التي تتعلق بالطلب والإرادة هي الفكرة التي تميز بين النافع والضار، ثم تترتب عليها فكرة أخرى في الطريق إلى حصول ما ينفع فيسلكها، وطريق ما يضر فيتركها، ولهم فكرة في عين التوحيد، وفكرة في لطائف الصفة، وفكرة في معاني الأعمال والأحوال، فهذه ستة أقسام لا سابع لها هي مجال أفكار العقلاء. فالفكرة في التوحيد استحضار أدلته وشواهده الدالة على بطلان الشرك واستحالته، وأن الإلهية يستحيل ثبوتها لاثنين، كما يستحيل ثبوت الربوبية لاثنين، فكذلك أبطل الباطل عبادة اثنين، والتوكل على اثنين، بل لا تصلح العبادة إلا للإله الحق، والرب الحق وهو الله الواحد القهار اهـ" .

(ولكن يستفاد من الفكر في الخلق لا محالة معرفة الخالق وعظمته، وجلاله وقدرته ) أشار به إلى أن اتساع المعرفة إنما يكون في معرفة أسمائه وصفاته، وفيها تتفاوت درجات الملائكة، والأنبياء، والأولياء، في معرفته، وهذا أيضا لا يعرفه بالكمال في الحقيقة إلا الله تعالى. (و ) لكن (كلما استكثرت من معرفة عجيب صنع الله كانت معرفتك بجلاله وعظمته أتم ) أي كلما ازداد العبد إحاطة بتفاصيل المقدورات، وعجائب الصنائع في ملكوت الأرض والسموات، كان حظه من معرفة صفة القدرة أوفر وأتم، لأن الثمرة تدل على المثمر، وهذا (كما أنك تعظم عالما بسبب معرفتك بعلمه، فلا تزال تطلع على غريبة غريبة من تصنيفه أو شعره ) وتزداد إحاطة بتفاصيل علومه فيها (فتزداد به [ ص: 219 ] معرفة، وتزداد بحسنه له توقيرا وتعظيما واحتراما، حتى إن كل كلمة من كلماته، وكل بيت عجيب من أبيات شعره، يزيده محلا في قلبك، ويستدعي التعظيم له في نفسك، فهكذا تأمل في خلق الله وتصنيفه وتأليفه، وكل ما في الوجود من خلق الله وتصنيفه والنظر والفكر فيه لا يتناهى أبدا، وإنما لكل عبد منهما بقدر ما رزق ) وإلى هذا يرجع تفاوت معرفة العارفين، ويتطرق إليه تفاوتا لا يتناهى. ومن هنا تعرف أن من قال لا أعرف إلا الله فقد صدق، ومن قال لا أعرف الله فقد صدق، فإنه ليس في الوجود إلا الله تعالى وأفعاله، فإذا نظر إلى أفعاله من حيث هي أفعاله وكان مقصور النظر عليها ولم يرها من حيث إنها سماء وأرض وشجر بل من حيث إنها صنعه فلم تجاوز معرفته حضرة الربوبية، فيمكنه أن يقول ما أعرف إلا الله، وما أرى إلا الله، ولو تصور شخص لا يرى إلا الشمس ونورها المنتشر في الآفاق يصح أن يقول ما أرى إلا الشمس، فإن النور الفائض منها هو من جملتها ليس خارجا عنها، وكل ما في الوجود نور من أنوار القدرة الأزلية، وأثر من آثارها. وكما أن الشمس ينبوع النور الفائض على كل مستنير فكذلك المعنى الذي قصرت العبارة عنه، فعبر عنه بالقدرة الأزلية للضرورة هو ينبوع الوجود الفائض على كل موجود، فليس في الوجود إلا الله تعالى، فيجوز أن يقول العارف لا أعرف إلا الله تعالى. ومن العجائب أن يقول لا أعرف إلا الله تعالى ويكون صادقا، ويقول لا أعرف الله ويكون أيضا صادقا، ولكن ذلك بوجه وهذا بوجه، ولا تناقض فيه، لاختلاف وجوه الاعتبارات .

(فلنقتصر على ما ذكرناه، ولنضف إلى هذا ما فصلناه في كتاب الشكر، فإذا نظرنا في ذلك الكتاب في فضل الله تعالى من حيث هو إحسان وإنعام علينا، وفي هذا الكتاب نظرنا فيه من حيث إنه فعل الله ) وصنعه (فقط وكل ما نظرنا فيه فإن الطبيعي ) الذي يذهب إلى تأثير الطبائع في الأشياء (ينظر فيه ويكون نظره سبب ضلاله وشقاوته ) لقصوره على تأثير الطبائع عن بارئها جل وعز (والموفق ) العارف (ينظر فيه فيكون سبب هدايته وسعادته ) لأنه لا ينظر في الوجود إلا لله وصنعه (وما من ذرة في السماء والأرض إلا والله سبحانه وتعالى يضل بها من يشاء، ويهدي بها من يشاء، فمن نظر في هذه الأمور من حيث إنها فعل الله وصنعه استفاد منه المعرفة بجلال الله وعظمته ) واهتدى وكان مقامه فيها أتم. (ومن نظر فيها قاصرا للنظر عليها من حيث تأثير بعضها في بعض لا من حيث ارتباطها بمسبب الأسباب فقد شقي وارتدى ) وسلك سبيل الردى (فنعوذ بالله من الضلال، ونسأله أن يجنبنا مزلة ) أي موقع زلل (أقدام الجهال بمنه ) تعالى (وفضله وجوده ورحمته ) آمين .

وبه تم كتاب التفكير، والحمد لله رب السموات والأرضين، والصلاة والسلام على حبيبه محمد المرسل إلى كافة العالمين، وعلى آله وصحبه وتابعيه إلى يوم الدين. قد نجز الفراغ عن شرحه في السادسة من نهار الإثنين لأربع بقين من شهر صفر الخير من شهور سنة 1201 اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وكتب أبو الفيض محمد مرتضى الحسيني غفر الله له بمنه، حامدا لله، مصليا مسلما، آمين .




الخدمات العلمية