الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( فصل ) في التعزير وهو لغة من أسماء الأضداد ; لأنه يطلق على التفخيم والتعظيم وعلى التأديب وعلى أشد الضرب وعلى ضرب دون الحد كذا في القاموس ، والظاهر أن هذا الأخير غلط ، إذ هو وضع شرعي لا لغوي ; لأنه لم يعرف إلا من جهة الشرع فكيف ينسب لأهل اللغة الجاهلين بذلك من أصله ، والذي في الصحاح بعد تفسيره بالضرب ، ومنه [ ص: 19 ] سمي ضرب ما دون الحد تعزيرا ، فأشار إلى أن هذه الحقيقة الشرعية منقولة عن الحقيقة اللغوية بزيادة قيد هو كون ذلك الضرب دون الحد الشرعي فهو كلفظ الصلاة والزكاة ونحوهما المنقولة لوجود المعنى اللغوي فيها بزيادة ، وأصله العذر بفتح فسكون وهو المنع .

                                                                                                                            وشرعا ما تضمنه قوله ( يعزر في كل معصية ) لله أو لآدمي ( لا حد لها ) ومراده بذلك يشمل القود ليدخل نحو قطع الطرف ( ولا كفارة ) سواء فيما ذكر مقدمة ما فيه حد وغيرها بالإجماع ، ولأمره تعالى الأزواج بالضرب عند النشوز ، ولما صح من فعله صلى الله عليه وسلم ، ولخبر { أنه صلى الله عليه وسلم قال في سرقة تمر دون نصاب غرم مثله وجلدات نكال } وأفتى علي رضي الله عنه فيمن قال لآخر يا فاسق يا خبيث ، وما ذكره المصنف هو الأصل ، وقد ينتفي مع انتفائهما كذوي الهيئات لخبر { أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود } وفي رواية : زلاتهم ، وفسرهم الشافعي رحمه الله بمن لا يعرف بالشر ، والمراد بذلك الصغائر التي لا حد فيها كما هو صريح كلام ابن عبد السلام لكن كلامه صريح في عدم جواز تعزيرهم على ذلك ، ونازعه الأذرعي بأن ظاهر كلام الشافعي رحمه الله ندب العفو عنهم ، وبأن عمر عزر جمعا من مشاهير الصحابة وهم رءوس الأولياء وسادات الأمة ولم ينكر عليه أحد .

                                                                                                                            وقد يقال إن قول الأم لم يعزر ظاهر في الحرمة ، وفعل عمر اجتهاد منه ، والمجتهد لا ينكر عليه في مسائل الخلاف ، وكمن رأى زانيا بأهله وهو محصن فقتله [ ص: 20 ] لعذره بالحمية والغيظ ، ومحل ذلك إن ثبت عليه ما ذكر وإلا جاز له قتله باطنا ، وأقيد به ظاهرا كما في الأم ، وكقطع الشخص أطراف نفسه وكقذفه من لاعنها وتكليف قنه فوق طاقته وضرب حليلته تعديا ووطئها في دبرها أول مرة في الجميع ولا ينافي الأخيرة تعزيره على وطء الحائض ; لأنه أفحش للإجماع على تحريمه ، وكفر مستحله مع أن الوطء في الدبر رذيلة ينبغي عدم إذاعتها ، وكالأصل لحق فرعه ما سوى قذفه كما مر ، وكتأخير قادر نفقة زوجة طلبتها أول النهار ، فإنه لا يحبس ولا يوكل به وإن أثم كما قاله الإمام ، وكتعريض أهل البغي بسب الإمام ، على أنه قد يقال انتفاء تعزيرهم ; لأن التعريض عندنا غير ملحق بالتصريح فلا يكون مما نحن فيه ، لكن قضية قول البحر ربما هيجهم التعزير للقتال فيترك أن تركه ليس لكون سببه غير معصية ، وكمن لا يفيد فيه إلا الضرب المبرح فلا يضرب أصلا كما نقله الإمام عن المحققين ، وهو الأصح وإن بحث فيه الرافعي بأنه ينبغي ضربه غير مبرح إقامة لصورة الواجب واعتمده جمع ، وقد يجامع التعزير الكفارة كمجامع حليلته نهار رمضان وكالمظاهر وحالف يمين غموس وكقتل من لا يقاد به ، ومن اجتماعهما تعليق يد السارق في عنقه ساعة زيادة في نكاله وكالزيادة على [ ص: 21 ] الأربعين في حد الشرب ، وكمن زنى بأمه في الكعبة صائما رمضان معتكفا محرما فيلزمه الحد والعتق والبدنة ، ويعزر لقطع رحمه وانتهاك حرمة الكعبة .

                                                                                                                            قال ابن عبد السلام من اجتماعه مع الحد ما لو تكررت ردته ; لأنه إن عزر ثم قتل كان قتله لإصراره وهو معصية جديدة ، وإن أسلم عزر ولا حد فلم يجتمعا ، وقد يوجد حيث لا معصية كفعل غير مكلف ما يعزر عليه المكلف ، وكمن يكتسب باللهو المباح فللوالي تعزير الآخذ والدافع كما اقتضاه كلام الماوردي للمصلحة ، وكنفي المخنث للمصلحة وإن لم يرتكب معصية

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            حاشية الشبراملسي

                                                                                                                            ( فصل ) في التعزير ( قوله : لأنه يطلق ) أي لغة ، وقوله والتعظيم عطف تفسير ( قوله : وعلى أشد الضرب ) قضيته أنه لا يطلق لغة على أصل الضرب ، لكن سيأتي عن الصحاح ما يفيد أنه يطلق على ذلك ( قوله : فكيف ينسب لأهل اللغة ) لا يقال : [ ص: 19 ] هذا لا يأتي على أن الواضع هو الله تعالى .

                                                                                                                            لأنا نقول : هو تعالى إنما وضع اللغة باعتبار ما يتعارفه الناس من قطع النظر عن الشرع ا هـ سم على حج .

                                                                                                                            ويمكن أن يجاب عن الإشكال بأن القاموس كثيرا ما يذكر المجازات اللغوية ، وإن كانت مستعملة بوضع شرعي ، والمجاز لا يشترط سماع شخصه بل يكفي سماع نوعه ( قوله : بزيادة المشتق منه ) أي لغة وذلك لأن التعزير مصدر مزيد وهو مشتق من المجرد ( قوله : لا حد لها ) ع : الأحسن لا عقوبة لها ليشمل الجناية على الأطراف بقطعها ا هـ سم على منهج ومن ثم قال الشارح ومراده إلخ ( قوله : قال في سرقة ) أي في بيان حكم سرقة إلخ ( قوله : وأفتى به علي ) أي بالتعزير ( قوله : وقد ينتفي مع انتقائهما ) أي بأن يفعل معصية لا حد فيها ولا كفارة ولا يعزر عليها .

                                                                                                                            ( قوله : لخبر : أقيلوا ) أي وجوبا ما لم ير المصلحة في عدم الإقالة ( قوله : عثراتهم ) ظاهره وإن تكرر ذلك وهو أحد وجهين .

                                                                                                                            ثانيهما أن المراد بالعثرة أول زلة ولو من الكبائر على ما يصرح به قول حج : وفي عثراتهم : أي المراد بها وجهان : صغيرة لا حد ، فيها ، وأول زلة : أي ولو كبيرة صدرت من مطيع ( قوله : والمراد بذلك ) أي العثرات ( قوله : لكن كلامه صريح إلخ ) معتمد ( قوله تعزيرهم على ذلك ) أي الصغائر ( قوله : وبأن عمر عزر جمعا ) إيراد هذا يتوقف على أن المعزر عليه صغيرة ، وأول زلة أي بناء على أن العثرة هي ذلك ، وهو واقعة حال فعلية ا هـ سم على حج ( قوله : وكمن رأى زانيا بأهله وهو محصن فقتله ) قضية السياق حرمة القتل في هذه الحالة ; لأن الكلام فيما انتفى فيه التعزير مع انتفاء الحد والكفارة عنه ، لكن قضية قوله عقبه وإلا حل قتله إلخ عدم حرمته فليراجع ا هـ سم على منهج .

                                                                                                                            أقول : قد يمنع كون الجواز قضيته لإمكان أن يفرق بين من ثبت زناه فلا يجوز قتله لإمكان رفعه [ ص: 20 ] للحاكم ، وبين من لم يثبت زناه فيجوز قتله لعذره حيث رآه يزني بأهله ، وعجز عن إثباته عليه ( قوله لعذره بالحمية ) أي إرادة المنع عما يطلب منه حمايته ، وفي المختار : الحمية : العار والأنفة ( قوله وتكليف قنه ) أي أو دابته ( قوله : ووطئها في دبرها ) قيل هذا بالنسبة له .

                                                                                                                            أما هي فتعزر ، وهو ممنوع إلا بنقل م ر ا هـ سم على حج ( قوله : أول مرة ) المراد قبل نهي الحاكم له ، ولو أكثر من مرة انتهى سم على حج ( قوله في الجميع ) الظاهر رجوعه لما مر من قوله كذوي الهيئات إلى هنا ، ومعلوم أن التقييد لا يأتي في مسألة الزاني ، ويدخل فيه حينئذ من قطع أطراف نفسه مرتبا ( قوله : وكفر مستحله ) قضيته أن وطء الحليلة في دبرها غير مجمع على تحريمه وعدم كفر مستحله ( قوله : لحق فرعه ) أي فلا يعزر له ( قوله : ما سوى قذفه ) أي فيعذر فيه .

                                                                                                                            ( قوله : غير ملحق بالتصريح ) لا يخفى أن التعريض بالغير بما يكره من أفراد الغيبة أخذا من قول الشارح السابق في مبحث خطبة النكاح في حد الغيبة ولو بإشارة أو إيماء بل وبالقلب بأن أصر على استحضاره ا هـ ، فهو معصية لا حد فيها ولا كفارة ، فعدم التعزير عليه هنا إذا اعترف بقصده المعرض به يوجب الاستثناء فقول ليس كالتصريح فيه نظر ، نعم ليس هو كالتصريح في حكم القذف ، وليس الكلام فيه فليتأمل ا هـ سم على حج ( قوله : لكون سبه غير معصية ) أي فهو معصية ، وهذا يفيد أن التعريض بسب غير الإمام من غير البغاة أيضا معصية ، وقضية توجيه البحر ثبوت التعزير لعدم المعنى الذي انتفى بسببه تعزيرهم على سب الإمام ، وكذا ثبوت تعزير غيرهم بسبب الإمام لذلك ا هـ سم على حج ( قوله : وحالف يمين غموس ) أي كاذبة .

                                                                                                                            ومحل ذلك إذا اعترف بحلفه كاذبا ، وأما إذا حلف ، وأقيمت عليه البينة فلا تعزير لاحتمال كذب البينة ( قوله : وكقتل من لا يقاد به ) يشمل قتل الوالد ولده ، وقد مثل به في شرح الروض ا هـ سم على حج : أي وهو مخالف لعموم قوله السابق ما سوى قذفه فتضم هذه الصورة إلى القذف ( قوله ومن اجتماعهما ) أي الحد والتعزير [ ص: 21 ] قوله وقد يوجد ) أي التعزير ( قوله : ما يعزر عليه ) أي أو يحد عليه بالطريق الأولى ( قوله : وكمن يكتسب باللهو المباح ) أي أما من يكتسب بالحرام فالتعزير عليه داخل في الحرام ; لأنه من المعصية التي لا حد فيها ولا كفارة ، ومن ذلك ما جرت العادة به في مصرنا من اتخاذ من يذكر حكايات مضحكة ، وأكثرها أكاذيب فيعزر على ذلك الفعل ، ولا يستحق ما يأخذه عليه ، ويجب رده إلى دافعه وإن وقعت صورة استئجار ; لأن الاستئجار على ذلك الوجه فاسد ، وكتب أيضا لطف الله به قوله وكمن يكتسب باللهو المباح كاللعب بالطار والغناء في القهاوي مثلا ، وليس من ذلك المسمى بالمزاح ( قوله : وكنفي المخنث للمصلحة ) أي وهو المتشبه بالنساء ، ومنها دفع من ينظر إليه حين التشبه أو من يريد التشبه بالنساء بأن يفعل مثل فعله



                                                                                                                            حاشية المغربي

                                                                                                                            ( فصل في التعزير ) ( قوله : من أسماء الأضداد ) أي في الجملة وإلا فالضرب الآتي ليس هو تمام ضد التفخيم والتعظيم وإنما حقيقة [ ص: 19 ] ضد ذلك الإهانة أعم من أن تكون بضرب أو غيره ( قوله قال في سرقة تمر دون نصاب إلخ ) انظر هل مقول القول جميع في سرقة تمر إلخ أو خصوص غرم مثله وجلدات فيكون قوله في سرقة إلخ بيانا لما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ( قوله : والمراد بذلك ) أي بالعثرات كما هو أحد وجهين ، وقيل المراد أول زلة : أي ولو كبيرة صدرت من مطيع ( قوله : وفعل عمر اجتهاد ) قال ابن قاسم : وأيضا فإيراده يتوقف على أن المعزر عليه صغيرة أو [ ص: 20 ] أول زلة وهي واقعة حال فعلية ا هـ ( قوله : وإلا جاز له قتله باطنا إلى آخره ) أي بخلاف ما إذا ثبت عليه فإنه يصير من الأمور الظاهرة المتعلقة بالإمام فقتله حينئذ فيه افتيات على الإمام فحرم ، فما ذكره الشهاب ابن قاسم هنا غير ظاهر ( قوله : لأن التعريض عندنا ليس كالتصريح ) قال ابن قاسم : لا يخفى أن التعريض بما يكره من أفراد الغيبة فهو معصية لا حد فيها ولا كفارة ( قوله : ومن اجتماعهما تعليق يد السارق إلخ ) هذا من اجتماع الحد مع التعزير [ ص: 21 ] لا من اجتماع التعزير مع الكفارة فلعل هنا سقطا في النسخ




                                                                                                                            الخدمات العلمية