الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الوتر ، إلا في حديث رواه ابن ماجه ، عن علي بن ميمون الرقي ، حدثنا مخلد بن يزيد ، عن سفيان ، عن زبيد اليامي ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، عن أبي بن كعب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كان يوتر فيقنت قبل الركوع )

وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله : أختار القنوت بعد الركوع ، إن كل شيء ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت ، إنما هو في الفجر لما رفع رأسه من الركوع ، وقنوت الوتر أختاره بعد الركوع ، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الوتر قبل أو بعد شيء . وقال الخلال : أخبرني محمد بن يحيى الكحال ، أنه قال لأبي عبد الله في القنوت في الوتر . فقال : ليس يروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ، ولكن كان عمر يقنت من السنة إلى السنة .

وقد روى أحمد وأهل "السنن" من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر : اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، إنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت )

[ ص: 324 ] زاد البيهقي والنسائي : "ولا يعز من عاديت " .

وزاد النسائي في روايته " وصلى الله على النبي " .

وزاد الحاكم في "المستدرك" وقال : ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود ) . ورواه ابن حبان في "صحيحه" ولفظه : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ) .

قال الترمذي : وفي الباب عن علي رضي الله عنه ، وهذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي ، واسمه ربيعة بن شيبان ، ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الوتر شيئا أحسن من هذا . انتهى .

والقنوت في الوتر محفوظ عن عمر ، وابن مسعود ، والرواية عنهم أصح من القنوت في الفجر ، والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الفجر ، أصح من الرواية في قنوت الوتر . والله أعلم .

وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره : ( اللهم إني أعوذ [ ص: 325 ] برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) . وهذا يحتمل ، أنه قبل فراغه منه وبعده ، وفي إحدى الروايات عن النسائي : كان يقول إذا فرغ من صلاته ، وتبوأ مضجعه ، وفي هذه الرواية : ( لا أحصي ثناء عليك ولو حرصت ) .

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك في السجود ، فلعله قاله في الصلاة وبعدها .

وذكر الحاكم في "المستدرك" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ووتره : ثم أوتر ، فلما قضى صلاته ، سمعته يقول : ( اللهم اجعل في قلبي نورا ، وفي بصري نورا ، وفي سمعي نورا ، وعن يميني نورا ، وعن شمالي نورا ، وفوقي نورا ، وتحتي نورا ، وأمامي نورا ، وخلفي نورا ، واجعل لي يوم لقائك نورا )

قال كريب : وسبع في القنوت ، فلقيت رجلا من ولد العباس ، فحدثني بهن ، فذكر "لحمي ودمي ، وعصبي وشعري وبشري" ، وذكر خصلتين ، وفي رواية النسائي في هذا الحديث ، وكان يقول في سجوده .

وفي رواية لمسلم في هذا الحديث : فخرج إلى الصلاة يعني صلاة الصبح ، وهو يقول . . . فذكر هذا الدعاء ، وفي رواية له أيضا : ( وفي لساني نورا واجعل في نفسي نورا ، وأعظم لي نورا ) ، وفي رواية له : ( واجعلني نورا )

[ ص: 326 ] وذكر أبو داود ، والنسائي من حديث أبي بن كعب ، قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر ، بـ ( سبح اسم ربك الأعلى ) و ( قل ياأيها الكافرون ) و ( قل هو الله أحد ) ، فإذا سلم قال : سبحان الملك القدوس ، ثلاث مرات ، يمد بها صوته في الثالثة ويرفع ) وهذا لفظ النسائي . زاد الدارقطني ( رب الملائكة والروح )

وكان صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته ، ويقف عند كل آية فيقول : ( الحمد لله رب العالمين ، ويقف ، الرحمن الرحيم ، ويقف : مالك يوم الدين )

وذكر الزهري أن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت آية آية ، وهذا هو الأفضل ، الوقوف على رءوس الآيات وإن تعلقت بما بعدها ، وذهب بعض القراء إلى تتبع الأغراض والمقاصد ، والوقوف عند انتهائها ، واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته أولى . وممن ذكر ذلك البيهقي في "شعب الإيمان" وغيره ، ورجح الوقوف على رءوس الآي وإن تعلقت بما بعدها .

وكان صلى الله عليه وسلم يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها ، وقام بآية يرددها حتى الصباح

[ ص: 327 ] وقد اختلف الناس في الأفضل من الترتيل وقلة القراءة ، أو السرعة مع كثرة القراءة : أيهما أفضل؟ على قولين .

فذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما إلى أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها .

واحتج أرباب هذا القول بأن المقصود من القراءة فهمه وتدبره ، والفقه فيه والعمل به ، وتلاوته وحفظه وسيلة إلى معانيه ، كما قال بعض السلف : ( نزل القرآن ليعمل به ، فاتخذوا تلاوته عملا ) ولهذا كان أهل القرآن هم العالمون به ، والعاملون بما فيه ، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب .

وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه ، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم .

قالوا : ولأن الإيمان أفضل الأعمال ، وفهم القرآن وتدبره هو الذي يثمر الإيمان ، وأما مجرد التلاوة من غير فهم ولا تدبر ، فيفعلها البر والفاجر ، والمؤمن والمنافق ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن ، كمثل الريحانة ، ريحها طيب ، وطعمها مر )

والناس في هذا أربع طبقات : أهل القرآن والإيمان ، وهم أفضل الناس . والثانية : من عدم القرآن والإيمان . الثالثة : من أوتي قرآنا ، ولم يؤت إيمانا ، الرابعة : من أوتي إيمانا ولم يؤت قرآنا .

قالوا : فكما أن من أوتي إيمانا بلا قرآن أفضل ممن أوتي قرآنا بلا [ ص: 328 ] إيمان ، فكذلك من أوتي تدبرا ، وفهما في التلاوة أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر .

قالوا : وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها ، وقام بآية حتى الصباح .

وقال أصحاب الشافعي رحمه الله : كثرة القراءة أفضل ، واحتجوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ حرفا من كتاب الله ، فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول : الم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف ) . رواه الترمذي وصححه .

قالوا : ولأن عثمان بن عفان قرأ القرآن في ركعة ، وذكروا آثارا عن كثير من السلف في كثرة القراءة .

والصواب في المسألة أن يقال : إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدرا ، وثواب كثرة القراءة أكثر عددا ، فالأول : كمن تصدق بجوهرة عظيمة ، أو أعتق عبدا قيمته نفيسة جدا ، والثاني : كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم ، أو أعتق عددا من العبيد قيمتهم رخيصة .

وفي "صحيح البخاري " عن قتادة قال : سألت أنسا عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( كان يمد مدا )

وقال شعبة : حدثنا أبو جمرة ، قال : قلت لابن عباس : إني رجل سريع القراءة ، وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين ، فقال ابن عباس : (لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إلي من أن أفعل ذلك الذي تفعل ، فإن كنت فاعلا ولا بد ، فاقرأ قراءة تسمع أذنيك ، ويعيها قلبك)

[ ص: 329 ] وقال إبراهيم : قرأ علقمة على ابن مسعود ، وكان حسن الصوت ، فقال : رتل فداك أبي وأمي ، فإنه زين القرآن .

وقال ابن مسعود : ( لا تهذوا القرآن هذ الشعر ، ولا تنثروه نثر الدقل ، وقفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة )

وقال عبد الله أيضا : ( إذا سمعت الله يقول : ( ياأيها الذين آمنوا ) فأصغ لها سمعك ، فإنه خير تؤمر به ، أو شر تصرف عنه) .

وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى : دخلت علي امرأة وأنا أقرأ ( سورة هود) فقالت : يا عبد الرحمن : هكذا تقرأ سورة هود؟! والله إني فيها منذ ستة أشهر وما فرغت من قراءتها .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسر بالقراءة في صلاة الليل تارة ، ويجهر بها تارة ، ويطيل القيام تارة ، ويخففه تارة ، ويوتر آخر الليل - وهو الأكثر - وأوله تارة ، وأوسطه تارة .

وكان يصلي التطوع بالليل والنهار على راحلته في السفر قبل أي جهة توجهت به ، فيركع ويسجد عليها إيماء ، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه ، وقد روى أحمد وأبو داود عن أنس بن مالك ، قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يصلي على راحلته تطوعا ، استقبل القبلة ، فكبر للصلاة ، ثم خلى عن راحلته ، ثم صلى أينما توجهت به ) . فاختلف الرواة عن أحمد : هل يلزمه أن يفعل ذلك إذا قدر عليه؟ على روايتين : فإن أمكنه الاستدارة إلى القبلة في صلاته كلها مثل أن يكون في محمل أو عمارية ونحوها ، فهل يلزمه ، أو [ ص: 330 ] يجوز له أن يصلي حيث توجهت به الراحلة؟ فروى محمد بن الحكم عن أحمد فيمن صلى في محمل : أنه لا يجزئه إلا أن يستقبل القبلة ، لأنه يمكنه أن يدور ، وصاحب الراحلة والدابة لا يمكنه . وروى عنه أبو طالب أنه قال : الاستدارة في المحمل شديدة يصلي حيث كان وجهه .

واختلفت الرواية عنه في السجود في المحمل فروى عنه ابنه عبد الله أنه قال : وإن كان محملا فقدر أن يسجد في المحمل ، فيسجد .

وروى عنه الميموني ، إذا صلى في المحمل أحب إلي أن يسجد ، لأنه يمكنه . وروى عنه الفضل بن زياد : يسجد في المحمل إذا أمكنه . وروى عنه جعفر بن محمد : السجود على المرفقة إذا كان في المحمل ، وربما أسند على البعير ، ولكن يومئ ويجعل السجود أخفض من الروع ، وكذا روى عنه أبو داود .

التالي السابق


الخدمات العلمية