الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              وأيضا : فقد دل الكتاب في قوله تعالى : [ ص: 195 ] ( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة )

              [ البقرة : 236 ] ، والسنة في حديث بروع بنت واشق ، وإجماع العلماء : على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق . وتستحق مهر المثل إذا دخل بها بإجماعهم ، وإذا مات عند فقهاء الحديث ، وأهل الكوفة المتبعين لحديث بروع بنت واشق ، وهو أحد قولي الشافعي . ومعلوم أن مهر المثل متقارب لا محدود ، فلو كان التحديد معتبرا في المهر ما جاز النكاح بدونه ، كما رواه أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره ، وعن بيع اللمس والنجش وإلقاء الحجر " . فمضت الشريعة بجواز النكاح قبل فرض المهر ، وأن الإجارة لا تجوز إلا مع تبيين الأجر ، فدل على الفرق بينهما .

              وسببه : أن المعقود عليه في النكاح - وهو منافع البضع - غير محدودة ، بل المرجع فيها إلى العرف ، فلذلك عوضه الآخر ; لأن المهر ليس هو المقصود ، وإنما هو نحلة تابعة . فأشبه الثمر التابع للشجر في البيع قبل بدو صلاحه . ولذلك لما قدم وفد هوازن على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وخيرهم بين السبي وبين المال فاختاروا السبي ، قال لهم : " إني قائم فخاطب الناس ، فقولوا : إنا نستشفع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين ، ونستشفع بالمسلمين على رسول الله . وقام فخطب الناس ، فقال : إني قد رددت على هؤلاء سبيهم ، فمن شاء طيب ذلك ، ومن شاء فإنا نعطيه عن كل رأس عشر قلائص من أول ما يفيء الله [ ص: 196 ] علينا " . فهذا معاوضة عن الإعتاق ، كعوض الكتابة بإبل مطلقة في الذمة ، إلى أجل [متفاوت] غير محدود . وقد روى البخاري عن ابن عمر في حديث خيبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم ، وغلبهم على الأرض والزرع والنخل ، فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفراء والبيضاء والحلقة وهي السلاح ، ويخرجون منها . واشترط عليهم أن لا يكتموا ، ولا يغيبوا شيئا ، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد .

              فهذا مصالحة على مال متميز غير معلوم . وعن ابن عباس قال : " صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل نجران على ألفي حلة : النصف في صفر ، والبقية في رجب ، يؤدونها إلى المسلمين ، وعارية ثلاثين درعا ، وثلاثين فرسا ، وثلاثين بعيرا ، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها ، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم ، إن كان باليمن كيد أو غارة " رواه أبو داود .

              فهذا مصالحة على ثياب مطلقة معلومة الجنس ، غير موصوفة بصفات السلم . وكذلك عارية خيل وإبل وأنواع من السلاح مطلقة غير موصوفة عند شرط ، قد يكون وقد لا يكون .

              فظهر بهذه النصوص أن العوض عما ليس بمال - كالصداق والكتابة والفدية في الخلع ، والصلح عن القصاص والجزية والصلح مع أهل الحرب - : ليس بواجب أن يعلم ، كما يعلم الثمن والأجرة .

              [ ص: 197 ] ولا يقاس على بيع الغرر كل عقد على غرر ; لأن الأموال إما أنها لا تجب في هذه العقود ، أو ليست هي المقصود الأعظم منها ، وما ليس هو المقصود إذا وقع فيه غرر لم يفض إلى المفسدة المذكورة في البيع ، بل يكون إيجاب التحديد في ذلك فيه من العسر والحرج المنفي شرعا ما يزيد على ضرر ترك تحديده .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية