الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) الآية . وجد قتيل في بني إسرائيل اسمه عاميل ، ولم يدروا قاتله ، واختلفوا فيه وفي سبب قتله . فقال عطاء والسدي : كان القاتل ابن عم المقتول ، وكان مسكينا ، والمقتول كثير المال . وقيل : كان أخاه ، وقيل : ابن أخيه ، ولا وارث له غيره ، فلما طال عليه عمره قتله ليرثه . وقال عطاء أيضا : كان تحت عاميل بنت عم لا مثل لها في بني إسرائيل في الحسن والجمال ، فقتله لينكحها . وطول المفسرون في هذه الحكاية بما يوقف عليه في كتبهم . والذي سأل موسى البيان هو القاتل ، قاله أبو العالية . وقال غيره : بل اجتمع القوم فسألوا موسى ، ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه تقدم ذكر مخالفتهم لأنبيائهم وتكذيبهم لهم في أكثر أنبائهم ، فناسب ذلك ذكر هذه الآية لما تضمنت من المراجعة والتعنت والعناد مرة بعد مرة . وقوله : ( وإذ قال ) معطوف على قوله : ( وإذ أخذنا ميثاقكم ) ، وقوم موسى أتباعه وأشياعه . وقرأ الجمهور : يأمركم بضم الراء ، وعن أبي عمرو : السكون والاختلاس وإبدال الهمزة ألفا ، وقد تقدم توجيه ذلك عند الكلام على بارئكم ويأمركم بصيغة المضارع ، فيحتمل أن يراد به الحال ، ويحتمل أن يراد به الماضي إن كان الأمر بذبح البقرة بما أنزل الله في التوراة ، أو بما أخبر موسى ، وأن تذبحوا في موضع المفعول الثاني لـ " يأمر " وهو على إسقاط الحرف ، أي بأن تذبحوا . ولحذف الحرف هنا مسوغان : أحدهما : أنه يجوز فيه إذا [ ص: 250 ] كان المفعول متأثرا بحرف الجر أن يحذف الحرف ، كما قال :


أمرتك الخير فافعل ما أمرت به



والثاني : كونه مع إن ، وهو يجوز معها حذف حرف الجر إذا لم يلبس . ودلالة الكلام على أن المأمور به أن تذبحوا بقرة ، فأي بقرة كانت لو ذبحوها لكان يقع الامتثال . وقد روى الحسن مرفوعا ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " والذي نفس محمد بيده لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ، ولكن شددوا فشدد الله عليهم " . وإنما اختص البقر من سائر الحيوانات لأنهم كانوا يعظمون البقر ويعبدونها من دون الله ، فاختبروا بذلك ، إذ هذا من الابتلاء العظيم ، وهو أن يؤمر الإنسان بقتل من يحبه ويعظمه ، أو لأنه أراد تعالى أن يصل الخير للغلام الذي كان بارا بأمه . وقال طلحة بن مصرف : لم تكن من بقر الدنيا ، بل نزلت من السماء . وقال بعض أهل العلم : البقر سيد الحيوانات الإنسية .

وقرأ : ( أتتخذنا ) ؟ الجمهور : بالتاء ، على أن الضمير هو لموسى . وقرأ عاصم الجحدري ، وابن محيصن بالياء ، على أن الضمير لله تعالى ، وهو استفهام على سبيل الإنكار .

( هزوا ) ، قرأ حمزة ، وإسماعيل ، وخلف في اختياره ، والقزاز ، عن عبد الوارث ، والمفضل ، بإسكان الزاي . وقرأ حفص : بضم الزاي والواو بدل الهمز . وقرأ الباقون بضم الزاي والهمزة ، وفيه ثلاث لغات التي قرئ بها ، وانتصابه على أنه مفعول ثان لقوله : ( أتتخذنا هزوا ) ، فإما أن يريد به اسم المفعول ، أي مهزوءا كقوله : درهم ضرب الأمير ، وهذا خلق الله ، أو يكون أخبروا به على سبيل المبالغة ، أي أتتخذنا نفس الهزء ، وذلك لكثرة الاستهزاء ممن يكون جاهلا ، أو على حذف مضاف ، أي مكان هزء ، أو ذوي هزء ، وإجابتهم نبيهم حين أخبرهم عن أمر الله بأن يذبحوا بقرة ، بقولهم : ( أتتخذنا هزوا ) دليل على سوء عقيدتهم في نبيهم وتكذيبهم له ، إذ لو علموا أن ذلك إخبار صحيح عن الله تعالى ، لما كان جوابهم إلا امتثال الأمر ، وجوابهم هذا كفر بموسى . وقال بعض الناس : كانوا مؤمنين مصدقين ، ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية . والعذر لهم أنهم لما طلبوا من موسى تعيين القاتل فقال لهم : ( إن الله يأمركم أن تذبحوا ) ، رأوا تباينا ما بين السؤال والجواب وبعده ، فتوهموا أن موسى داعبهم ، وقد لا يكون أخبرهم في ذلك الوقت بأن القتيل يضرب ببعض البقرة المذبوحة فيحيا ويخبر بمن قتله ، أو يكون أخبرهم بذلك ، فتعجبوا من إحياء ميت ببعض ميت ، فظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء . وقيل : في الكلام محذوف تقديره : آلله أمرك أن تتخذنا هزوا ؟ وقيل : هو استفهام حقيقة ليس فيه إنكار ، وهو استفهام استرشاد لا استفهام إنكار وعناد .

( قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) لما فهم موسى - عليه السلام - عنهم أن تلك المقالة التي صدرت عنهم إنما هي لاعتقادهم فيها أنه أخبر عن الله بما لم يأمر به ، استعاذ بالله وهو الذي أخبر عنه ، أن يكون من الجاهلين بالله ، فيخبر عنه بأمر لم يأمر به تعالى ، إذ الإخبار عن الله تعالى بما لم يخبر به الله إنما يكون ذلك من الجهل بالله تعالى . وقوله : من الجاهلين فيه تصريح أن ثم جاهلين ، واستعاذ بالله أن يكون منهم ، وفيه تعريض أنهم جاهلون ، وكأنه قال : أن أكون منكم ، لأنهم جوزوا على من هو معصوم من الكذب ، وخصوصا في التبليغ عن الله أن يخبر عن الله بالكذب . قالوا : والجهل بسيط ، ومركب . البسيط : عام وخاص . العام : عدم العلم بشيء من المعلومات ، والخاص : عدم العلم ببعض المعلومات ، والمركب : أن يجهل ، ويجهل أنه يجهل . فالعام والمركب لا يوصف بهما من له بعض علم ، فضلا عن نبي شرف بالرسالة والتكليم ، وذلك مستحيل عليه ، فيستحيل أن يستعيذ منه إلا على سبيل الأدب . فالذي استعاذ منه موسى هو خاص ، وهو المفضي إلى أن يخبر عن الله تعالى مستهزئا ، أو المقابل لجهلهم . فقالوا : أتتخذنا هزوا لمن يخبرهم عن الله ، أو معناه الاستهزاء بالمؤمنين . فإن ذلك جهل ، أو من الجاهلين [ ص: 251 ] بالجواب ، لا على وفق السؤال ، إذ ذاك جهل ، والأمر من تلقاء نفسي ، وأنسبه إلى الله ، والخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء فإن ذلك جهل . وهذه الوجوه الستة مستحيلة على موسى . قيل : وإنما استعاذ منها بطريق الأدب ، كما استعاذ نوح - عليه السلام - ( أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ) ، وكما في : ( وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ) ، وإنما قالوا ذلك بطريق الأدب مع الله والتواضع له .

التالي السابق


الخدمات العلمية