الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين

هذا تخلص من محاجة المشركين وبيان ضلالهم المذيل بقوله : إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ، انتقل الكلام من ذلك إلى تبيين شرائع هدى للمهتدين ، وإبطال شرائع شرعها المضلون ، تبيينا يزيل التشابه والاختلاط ، ولذلك خللت الأحكام المشروعة للمسلمين بأضدادها التي كان شرعها المشركون وسلفهم .

وما تشعر به الفاء من التفريع يقضي باتصال هذه الجملة بالتي قبلها ، ووجه ذلك أن قوله تعالى : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله

[ ص: 31 ] تضمن إبطال ما ألقاه المشركون من الشبهة على المسلمين في تحريم الميتة ، إذ قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم تزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك وما قتل الكلب والصقر حلال أكله ، وأن ما قتل الله حرام ، وأن ذلك مما شمله قوله تعالى : وإن هم إلا يخرصون فلما نهى الله عن اتباعهم ، وسمى شرائعهم خرصا ، فرع عليه هنا الأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه ؛ أي : عند قتله ؛ أي : ما نحر أو ذبح وذكر اسم الله عليه ، والنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ، ومنه الميتة ، فإن الميتة لا يذكر اسم الله عليها ، ولذلك عقبت هذه الآية بآية وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون .

فتبين أن الفاء للتفريع على معلوم من المراد من الآية السابقة .

والأمر في قوله : فكلوا للإباحة ، ولما لم يكن يخطر ببال أحد أن ما ذكر اسم الله عليه يحرم أكله ؛ لأن هذا لم يكن معروفا عند المسلمين ولا عند المشركين ، علم أن المقصود من الإباحة ليس رفع الحرج ، ولكن بيان ما هو المباح ، وتمييزه عن ضده من الميتة وما ذبح على النصب ، والخطاب للمسلمين .

وقوله : مما ذكر اسم الله عليه دل على أن الموصول صادق عن الذبيحة ؛ لأن العرب كانوا يذكرون عند الذبح أو النحر اسم المقصود بتلك الذكاة ، يجهرون بذكر اسمه ، ولذلك قيل فيه : أهل به لغير الله أي : أعلن ، والمعنى كلوا المذكى ولا تأكلوا الميتة ، فما ذكر اسم الله عليه كناية عن المذبوح ؛ لأن التسمية إنما تكون عند الذبح .

وتعليق فعل الإباحة بما ذكر اسم الله عليه أفهم أن غير ما ذكر اسم الله عليه لا يأكله المسلمون ، وهذا الغير يساوي معناه ما ذكر اسم غير الله عليه ؛ لأن عادتهم أن يذبحوا ذبيحة إلا ذكروا عليها اسم الله ، إن كانت هديا في الحج ، أو ذبيحة للكعبة ، وإن كانت قربانا للأصنام [ ص: 32 ] أو للجن ذكروا عليها اسم المتقرب إليه ، فصار قوله : فكلوا مما ذكر اسم الله عليه مفيدا النهي عن أكل ما ذكر اسم غير الله عليه ، والنهي عما لم يذكر عليه اسم الله ولا اسم غير الله ؛ لأن ترك ذكر اسم الله بينهم لا يكون إلا لقصد تجنب ذكره .

وعلم من ذلك أيضا النهي عن أكل الميتة ونحوها ، مما لم تقصد ذكاته ؛ لأن ذكر اسم الله أو اسم غيره إنما يكون عند إرادة ذبح الحيوان ، كما هو معروف لديهم ، فدلت هذه الجملة على تعيين أكل ما ذكي دون الميتة ، بناء على عرف المسلمين ؛ لأن النهي موجه إليهم ، ومما يؤيد ذلك ما في الكشاف أن الفقهاء تأولوا قوله الآتي : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه بأنه أراد به الميتة ، وبناء على فهم أن يكون قد ذكر اسم الله عليه عند ذكاته دون ما ذكر عليه اسم غير الله ؛ أخذا من مقام الإباحة والاقتصار فيه على هذا دون غيره ، وليس في الآية صيغة قصر ، ولا مفهوم مخالفة ، ولكن بعضها من دلالة صريح اللفظ ، وبعضها من سياقه ، وهذه الدلالة الأخيرة من مستتبعات التراكيب المستفادة بالعقل التي لا توصف بحقيقة ولا مجاز .

وبهذا يعلم أن لا علاقة للآية بحكم نسيان التسمية عند الذبح ، فإن تلك مسألة أخرى لها أدلتها ، وليس من شأن التشريع القرآني التعرض للأحوال النادرة .

و ( على ) للاستعلاء المجازي ، تدل على شدة اتصال فعل الذكر بذات الذبيحة ، بمعنى أن يذكر اسم الله عليها عند مباشرة الذبح لا قبله أو بعده .

وقوله : إن كنتم بآياته مؤمنين تقييد للاقتصار المفهوم : من فعل الإباحة ، وتعليق المجرور به ، وهو تحريض على التزام ذلك ، وعدم التساهل فيه ، حتى جعل من علامات كون فاعله مؤمنا ، وذلك حيث كان شعار أهل الشرك ذكر اسم غير الله على معظم الذبائح .

[ ص: 33 ] فأما ترك التسمية : فإن كان لقصد تجنب ذكر اسم الله فهو مساو لذكر اسم غير الله ، وإن كان لسهو فحكمه يعرف من أدلة غير هذه الآية ، منها قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا وأدلة أخرى من كلام النبيء صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية