الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكان أيضا يلبس العمامة على القلنسوة، وكذلك أصحابه، وكانوا مع ذلك يركبون الخيل ويطردونها، ويقاتلون في سبيل الله، ولهذا كانوا يديرون العمائم تحت أذقانهم، ويسمى ذلك: التلحي.

وفي « غريب أبي عبيد»: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط.

وفسر أبو عبيد « الاقتعاط» عن أبي نعيم: ولا يدير عمامته تحت ذقنه.

وقد روي عن غير واحد من الصحابة والتابعين كراهة هذه العمة، وكان أهل الشام لمحاربتهم للعدو ومقاتلتهم إياه محافظين على هذه السنة، كما ذكر ذلك الإمام أحمد وغيره.

والتلحي ليس هو التلثم على الفم والأنف، فإن ذلك مكروه في الصلاة، ولكن التلحي: أن يشد العمامة ويربطها على الحنك بحيث تثبت العمامة على الرأس، وهي نظير الكلاليب والخيوط التي تتخذها الأجناد في زمننا لشد عمائمهم على رؤوسهم. [ ص: 146 ]

وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مسح على عمامته، ورخص في المسح على العمامة، حتى قال عمر بن الخطاب: من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله.

فظن طائفة من العلماء أن ذلك كان مع مسح الناصية، ولكن قد جاءت الأحاديث الصحيحة بمسح العمامة بلا ناصية.

وقال طائفة منهم الإمام أحمد: إن ذلك في العمائم التي على السنة، وهي العمائم التي تدار تحت الذقن; لأنها السنة، ولأنه يشق خلعها. وفي ذات الذؤابة بلا تلحي خلاف. وقال طائفة منهم إسحاق بن راهويه: إن ذلك في العمائم مطلقا.

وإرخاء الذؤابة بين الكتفين معروف في السنة، كما روى مسلم في « صحيحه» وأهل السنن الأربعة عن عمرو بن حريث قال: رأيت [ ص: 147 ] النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وعليه عمامة سوداء، قد أرخى طرفها بين كتفيه.

ورووا -أيضا- عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح مكة وعليه عمامة سوداء. ولم يذكر في هذا الحديث ذؤابة، وذلك أنه يوم الفتح كان قد دخل وعليه أهبة القتال، والمغفر على رأسه، فلبس في كل موطن ما يناسبه.

وأما شد الوسط; فقد كان من الصحابة من يشد وسطه بطرف عمامته، ومنهم من كان يقاتل بلا شد وسط.

وقد جاء ذكر المنطقة في آثار، والمنطقة: هي الحياصة، ولكن لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشد وسطه بمنطقة.

وأما المهاميز; فما كانوا يحتاجون إليها، فإن الخيل العربية مع الراكب الخبير بالركوب لا يحتاج إلى مهماز، ولهذا لم ينقل في الحديث أنهم كانوا يركبون بمهاميز، وإنما اتخذها من اتخذها للحاجة إليها.

وكذلك -أيضا- لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتخذون الأكمام الطوال ولا الواسعة سعة كبيرة، بل قد تقدم أن كم قميص النبي صلى الله عليه وسلم كان [ ص: 148 ] إلى الرسغ، وهذه الزيادة سرف. وأيضا فالمقاتل لا يتمكن من القتال بذلك.

وبعض الناس يقول: إنما اتخذها بعض المنتمين إلى العلم لأجل حمل الكتب فيها، وما يروى عن بعض الأئمة أن أحد كميه كان واسعا، والآخر ضيقا فهو كذب.

وكذلك إطالة الذؤابة كثيرا، فهو من الإسبال المنهي عنه.

واعتياد لبس الطيالسة على العمائم لا أصل له في السنة، ولم يكن من فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة. بل قد ثبت في « صحيح مسلم» عن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الدجال أنه يخرج معه سبعون ألف مطيلس من يهود أصبهان.

وكذلك جاء في غير هذا الحديث أن الطيالسة من شعار اليهود، [ ص: 149 ] ولهذا كره من كره لبسها، لما رواه أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من تشبه بقوم فهو منهم».

وفي الترمذي أنه قال: « ليس منا من تشبه بغيرنا».

وأما التقنع الذي جاء ذكره في حديث الهجرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي بكر متقنعا بالهاجرة; فذاك فعله النبي صلى الله عليه وسلم تلك الساعة ليختفي بذلك، ففعله [إذن] للحاجة، ولم تكن عادته التقنع.

وليس التقنع هو التطيلس، بل التقنع لغير حاجة ينهى عنه الرجال; لأنه تشبه بالنساء، وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه: أنه لعن الرجال المتشبهين بالنساء، ولعن النساء المتشبهات بالرجال.

التالي السابق


الخدمات العلمية