الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 463 ] 8 - باب

                                الدعاء عند النداء

                                589 614 - حدثني ابن عياش : ثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ، حلت له شفاعتي يوم القيامة ) .

                                التالي السابق


                                هذا مما تفرد [ به ] البخاري دون مسلم .

                                وخرجه الترمذي ، وقال : حسن غريب من حديث ابن المنكدر ، لا نعلم أحدا رواه غير شعيب بن أبي حمزة .

                                وذكر ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، قال : قد طعن في هذا الحديث ، وكان عرض شعيب بن أبي حمزة على ابن المنكدر كتابا ، فأمر بقراءته عليه ، فعرف بعضا وأنكر بعضا ، وقال لابنه - أو لابن أخيه - : اكتب هذه الأحاديث ، فدون شعيب ذلك الكتاب ولم تثبت رواية شعيب تلك الأحاديث على الناس ، وعرض علي بعض تلك الكتب [ فرأيتها مشابهة ] لحديث إسحاق بن أبي فروة ، وهذا الحديث من تلك الأحاديث . انتهى .

                                وقد روى الأثرم ، عن أحمد ، قال : نظرت في كتب شعيب ، أخرجها إلي ابنه ، فإذا فيها من الصحة والحسن والمشكل نحو هذا .

                                [ ص: 464 ] وقد روي ، عن جابر من وجه آخر بلفظ فيه بعض مخالفة ، وهو يدل على أن لحديث جابر أصلا .

                                خرجه الإمام أحمد من رواية ابن لهيعة : ثنا أبو الزبير ، عن جابر ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قال حين ينادي المنادي : اللهم ، رب هذه الدعوة التامة والصلاة النافعة ، صل على محمد وارض عنه رضا لا سخط بعده - استجاب الله دعوته " .

                                وقد روي في هذا المعنى وسؤال الوسيلة عند سماع الأذان من حديث أبي الدرداء ، وابن مسعود - مرفوعا - وفي إسنادهما ضعف .

                                ومما يشهد له - أيضا - : حديث خرجه مسلم من طريق كعب بن علقمة ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي ؛ فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ، ثم سلوا الله لي الوسيلة ؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة ) .

                                وعبد الرحمن بن جبير هذا : مولى نافع بن عمرو القرشي المصري ، وظن بعضهم أنه ابن جبير بن نفير ، فوهم ، وقد فرق بينهما البخاري والترمذي وأبو حاتم الرازي وابنه .

                                وقد روي عن الحسن ، أن هذا الدعاء يشرع عند سماع آخر الإقامة .

                                روى ابن أبي شيبة : ثنا أبو الأحوص ، عن أبي حمزة ، عن الحسن ، قال : إذا قال المؤذن : ( قد قامت الصلاة ) ، فقل : اللهم ، رب هذه الدعوة [ ص: 465 ] التامة والصلاة القائمة ، أعط محمدا سؤله يوم القيامة . فلا يقولها رجل حين يقيم المؤذن إلا أدخله الله في شفاعة محمد يوم القيامة .

                                وروى ابن السني في كتاب " عمل اليوم والليلة " من رواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، عن عطاء بن قرة ، عن عبد الله بن ضمرة ، عن أبي هريرة ، أنه كان يقول إذا سمع المؤذن يقيم : اللهم رب هذه الدعوة التامة وهذه الصلاة القائمة ، صل على محمد وآته سؤله يوم القيامة .

                                وهذه الآثار تشهد للمنصوص عند أحمد ، أنه يدعو عند الإقامة ، كما سبق عنه .

                                وقوله : ( من قال حين يسمع النداء ) : ظاهره أنه يقول ذلك في حال سماع النداء ، قبل فراغه . ويحتمل أنه يريد به حين يفرغ من سماعه .

                                وحديث عبد الله بن عمرو صريح في أنه يسأل الوسيلة بعد إجابة المؤذن والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                وهذا هو الأظهر ؛ فإنه يشرع قبل جميع الدعاء تقديم الثناء على الله والصلاة على رسوله ، ثم يدعو بعد ذلك .

                                وقوله : ( اللهم رب هذه الدعوة التامة ) .

                                والمراد بالدعوة التامة : دعوة الأذان ؛ فإنها دعاء إلى أشرف العبادات ، والقيام في مقام القرب والمناجاة ؛ فلذلك كانت دعوة تامة ، أي : كاملة لا نقص فيها ، بخلاف ما كانت دعوات أهل الجاهلية : إما إلى استنصار على عدو ، أو إلى نعي ميت ، أو إلى طعام ، ونحو ذلك مما هو ظاهره النقص والعيب .

                                وروى أبو عيسى الأسواري ، قال : كان ابن عمر إذا سمع الأذان قال : اللهم رب هذه الدعوة المستجابة المستجاب لها ، دعوة الحق وكلمة التقوى ، [ ص: 466 ] فتوفني عليها ، وأحيني عليها ، واجعلني من صالح أهلها عملا يوم القيامة .

                                وقد روي عن ابن عمر - موقوفا - من وجوه أخر .

                                وروي عنه مرفوعا من وجه ضعيف .

                                قال الدارقطني : الصحيح موقوف .

                                وخرج بقي بن مخلد والحاكم من حديث عفير بن معدان ، عن [ سليم بن عامر ، عن ] أبي أمامة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا نادى المنادي فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء ، فمن نزل به كرب أو شدة فليتحين المنادي إذا نادى ، فليقل مثل مقاله ، ثم ليقل : اللهم ، رب هذه الدعوة التامة الصادقة الحق المستجابة ، المستجاب لها ، دعوة الحق وكلمة التقوى ، أحينا عليها ، وأمتنا عليها ، وابعثنا عليها ، واجعلنا من خيار أهلها محيا ومماتا . ثم يسأل حاجته ) .

                                وعفير ، ضعيف جدا .

                                وقوله : ( والصلاة القائمة ) - أي : التي ستقوم وتحضر .

                                وقد خرج البيهقي حديث جابر ، ولفظه : ( اللهم إني أسألك بحق هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ) .

                                وهذا اللفظ لا إشكال فيه ؛ فإن الله سبحانه جعل لهذه الدعوة وللصلاة حقا كتبه على نفسه ، لا يخلفه لمن قام بهما من عباده ، فرجع الأمر إلى السؤال بصفات الله وكلماته .

                                ولهذا استدل الإمام أحمد على أن القرآن ليس بمخلوق باستعاذة النبي - صلى الله عليه وسلم - بكلمات الله التامة ، وقال : إنما يستعاذ بالخالق لا بالمخلوق .

                                وأما رواية من روى : ( اللهم ، رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ) ، كما [ ص: 467 ] هي رواية البخاري والترمذي وغيرهما ، فيقال : كيف جعل هذه الدعوة مربوبة ، مع أن فيها كلمة التوحيد ، وهي من القرآن ، والقرآن غير مربوب ولا مخلوق ؟

                                وبهذا فرق من فرق من أهل السنة بين أفعال الإيمان وأقواله ، فقال : أقواله غير مخلوقة ، وأفعاله مخلوقة ؛ لأن أقواله كلها ترجع إلى القرآن ؟

                                وأجيب عن هذا بوجوه :

                                منها : أن المربوب هو الدعوة إلى الصلاة خاصة ، وهو قوله : ( حي على الصلاة ، حي على الفلاح ) ، وليس ذلك في القرآن ، ولم يرد به التكبير والتهليل . وفيه بعد .

                                ومنها : أن المربوب هو ثوابها . وفيه ضعف .

                                ومنها : أن هذه الكلمات من التهليل والتكبير هي من القرآن بوجه ، وليست منه بوجه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الكلام بعد القرآن أربع ، وهن من القرآن : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ) .

                                فهي من القرآن إذا وقعت في أثناء القرآن ، وليست منه إذا وقعت في كلام خارج عنه ، فيصح أن تكون الكلمات الواقعة من ذلك في ضمن ذلك مربوبة .

                                وقد كره الإمام أحمد أن يؤذن الجنب ، وعلل بأن في الأذان كلمات من القرآن .

                                والظاهر : أن هذا على كراهة التنزيه دون التحريم .

                                ومن الأصحاب من حمله على التحريم ، وفيه نظر ؛ فإن الجنب لا يمنع من قول : " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر " على وجه الذكر ، دون التلاوة .

                                وسئل إسحاق عن الجنب : يجيب المؤذن ؟ قال : نعم ؛ لأنه ليس بقرآن .

                                [ ص: 468 ] ومنها : أن الرب ما يضاف إليه الشيء ، وإن لم يكن خلقا له ، كرب الدار ونحوه ، فالكلام يضاف إلى الله ؛ لأنه هو المتكلم به ، ومنه بدأ ، وإليه يعود ، فهذا بمعنى إضافته إلى [ ربوبية ] الله .

                                وقد صرح بهذا المعنى الأوزاعي ، وقال فيمن قال ( برب القرآن ) : إن لم يرد ما يريد الجهمية فلا بأس .

                                يعني : إذا لم يرد بربوبيته خلقه كما يريده الجهمية ، بل أراد إضافة الكلام إلى المتكلم به .

                                وقوله : ( آت محمدا الوسيلة ) ، قد تقدم حديث عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( ثم سلوا الله لي الوسيلة ؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ) .

                                وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( سلوا الله لي الوسيلة ) . قالوا : يا رسول الله ، ما الوسيلة ؟ قال : ( أعلى درجة في الجنة ، لا ينالها إلا رجل واحد ، أرجو أن أكون أنا ) .

                                ولفظ الإمام أحمد : ( إذا صليتم علي فسلوا الله لي الوسيلة ) - وذكر باقيه .

                                وخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الوسيلة درجة عند الله عز وجل ليس فوقها درجة ، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة ) .

                                وأما ( الفضيلة ) ، فالمراد - والله أعلم - : إظهار فضيلته على الخلق أجمعين يوم القيامة وبعده ، وإشهاد تفضيله عليهم في ذلك الموقف ، كما قال : ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ) ، ثم ذكر حديث الشفاعة .

                                [ ص: 469 ] وقوله : ( وابعثه مقاما محمودا ) ، هكذا في رواية البخاري وأبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم .

                                وعزا بعضهم إلى النسائي ، أنه رواه بلفظ : ( المقام المحمود ) بالتعريف ، وليس كذلك .

                                [ وكذلك ] وقعت هذه اللفظة بالألف واللام في بعض طرق روايات الإسماعيلي في ( صحيحه ) .

                                ووجه الرواية المشهورة : أن ذلك متابعة للفظ القرآن ، فهو أولى ، وعلى هذا فلا يكون ( الذي وعدته ) صفة ؛ لأن النكرة لا توصف بالمعرفة وإن تخصصت ، وإنما تكون بدلا ، لأن البدل لا يشترط أن يطابق في التعريف والتنكير ، أو يكون منصوبا بفعل محذوف تقديره : ( أعني : الذي وعدته ) ، أو يكون مرفوعا خبر مبتدأ محذوف ، أي ( هو الذي وعدته ) .

                                و : ( المقام المحمود ) : فسر بالشفاعة .

                                وقد روي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وغيرهم .

                                وفسر : بأنه يدعى يوم القيامة ليكسى حلة خضراء ، فيقوم عن يمين العرش مقاما لا يقدمه أحد ، فيغبطه به الأولون والآخرون .

                                [ ص: 470 ] وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن مسعود ، ونحوه من حديث كعب بن مالك - أيضا - وكذا روي عن حذيفة - موقوفا ، ومرفوعا .

                                وهذا يكون قبل الشفاعة .

                                وفسره مجاهد وغيره بغير ذلك .

                                وقوله : ( حلت له شفاعتي ) . قيل : معناه نالته وحصلت له ووجبت .

                                وليس المراد بهذه الشفاعة : الشفاعة في فصل القضاء ؛ فإن تلك عامة لكل أحد . ولا الشفاعة في الخروج من النار ، ولا بد ؛ فإنه قد يقول ذلك من لا يدخل النار .

                                وإنما المراد - والله أعلم - : أنه يصير في عناية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيث تتحتم له شفاعته ؛ فإن كان ممن يدخل النار بذنوبه شفع له [ في ] إخراجه منها ، أو في منعه من دخولها . وإن لم يكن من أهل النار فيشفع له في دخوله الجنة بغير حساب ، أو في رفع درجته في الجنة .

                                وقد سبقت الإشارة إلى أنواع شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ( كتاب التيمم ) .



                                الخدمات العلمية