الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5068 5383 - حدثنا مسلم، حدثنا وهيب، حدثنا منصور، عن أمه، عن عائشة - رضي الله عنها -: توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - حين شبعنا من الأسودين، التمر والماء. [انظر: 5442 - مسلم: 2975 - فتح:9 \ 527]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أنس - رضي الله عنه -قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعيفا أعرف فيه الجوع .. الحديث بطوله، وقد سلف في علامات النبوة ، وبعضه في الصلاة ، ويأتي في النذور ، وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي .

                                                                                                                                                                                                                              والكلام عليه من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (أعرف فيه الجوع) فيه: أن الأنبياء عليهم السلام تذوى عنهم الدنيا حتى يدركهم ألم الجوع ابتلاء واختبارا. وقد خير -عليه السلام - بين أن [ ص: 107 ] يكون نبيا عبدا أو ملكا، فاختار أن يكون نبيا عبدا، وعرضت عليه الدنيا فردها واختار ما عند الله; لتتأسى به أمته في ذلك ويمتثلوا زهده في الدنيا.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: رد لقول ابن حبان أنه - عليه السلام - لم يجع قط وأن ربط الحجر على بطنه بالزاي لا بالراء، وأنه تصحيف من الحجز .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              جواز الشهادة على الصوت، واستدل به بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر على جواز شهادة الأعمى على الصوت; لقوله: أعرف فيه الجوع. وعارضه المانع بأن أبا طلحة تغير عنده صوته مع علمه بصوته، ولولا رؤيته له لاشتبه عليه في حين سماعه منه وما عرفه .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              سد الرجل خلة أخيه إذا علم منه حاجة نزلت به، من حيث لا يسأله ذلك، وهذا من مكارم الأخلاق.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              علم الشارع من أبي طلحة أنه يسره سيره إليه مع أصحابه، ولذلك تلقاه أبو طلحة مسرورا به وبأصحابه، وليس العمل على هذا من أجل أنه لا يحتمله كل الناس.

                                                                                                                                                                                                                              وكذلك قال مالك: من دعي إلى طعام وليمة أو غيرها فلا ينبغي له أن يحمل معه غيره، إذ لا يدري هل يسر بذلك صاحب الوليمة أم لا؟ إلا أن يقال له: ادع من لقيت فيباح له ذلك حينئذ.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 108 ] قلت: والضابط العلم بحال الداعي.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله -عليه السلام -: ("أرسلك أبو طلحة؟ " فقلت: نعم). يجوز أن يكون قاله وحيا أو استدلالا بقيام أبي طلحة.

                                                                                                                                                                                                                              وقول أبي طلحة: (قد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس) هو قول مقتضى العادة.

                                                                                                                                                                                                                              وقول أم سليم: (الله ورسوله أعلم)، قول أخرجه النظر إلى الإمكان وخرق العادة، وجائز لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه منقبة عظيمة لها، ودلالة على عظم فقهها ورجحان عقلها كونها عرفت أنه -عليه السلام - قد عرف مقدار الطعام، ولم يكن ليدع إليه هؤلاء الثمانين رجلا إلا وهو يكفيهم.

                                                                                                                                                                                                                              سادسها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (هلمي). كذا وقع، وليست لغة أهل الحجاز; لأنهم يقولون للمرأة هلم وكذا للواحد والاثنين والجمع، قال تعالى: والقائلين لإخوانهم هلم إلينا وقيل: هي كفعل الأمر يفترق فيه المذكر من المؤنث، والتثنية من الواحد والجمع.

                                                                                                                                                                                                                              سابعها:

                                                                                                                                                                                                                              فيه: تكنية المرأة.

                                                                                                                                                                                                                              والعكة الصغيرة من القرب، وجمعها عكك وعكاك، وهو بالسمن أخص من العسل كما قال ابن الأثير : وآدمته -بمد الألف، وقصرها-: جعلت فيه إداما .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 109 ] وقال ابن التين: أدمته طيبته، والإدام: ما يطيب فيه الطعام. قال: وأدمته مقصور; لأنه من أدم أدما ثلاثي.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: وروي بتشديد الدال على التكبير. وسيد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم. جعله أدما. وبعض الفقهاء قال: لا يحنث فيما إذا حلف أن لا يأتدم ثم أكله.

                                                                                                                                                                                                                              ثامنها:

                                                                                                                                                                                                                              فيه: الخروج إلى الطريق للضيف والزائر; إكراما له وبرا به، وأنه لا حرج على الصديق أن يأمر في دار صديقه مما شاء مما يعلم أنه يسره به، ألا ترى أنه اشترط عليهم أن يفتوا الخبز، وقال لأم سليم: "هات ما عندك".

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: بركة الثريد وجواز الأكل حتى يشبع، وهو ما عقد له الباب، وأن الشبع مباح، وكذا في حديث عبد الرحمن بن أبي بكر وعائشة الآتيين جواز الشبع أيضا وإن كان ترك الشبع في بعض الأحايين أفضل، وقد وردت في ذلك آثار عن سلمان وأبي جحيفة - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا في الآخرة" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 110 ] قال الطبري: غير أن الشبع، وإن كان مباحا فإن له حدا ينتهى إليه، وما زاد عليه فهو سرف. فالمطلق منه ما أعان على الطاعة ولم يشغله فعله عن أداء الواجب، وذلك دون ما أثقل المعدة وثبط أكله عن خدمة ربه والأخذ بحظه من نوافل (العبادة) ، فالحق لله على عبده ألا يتعدى في مطعمه ومشربه ما سد الجوع وكسر الظمأ، فإن تعدى ذلك إلى ما فوقه ما يمنعه من القيام بالواجب لله تعالى عليه، كان قد أسرف في مطعمه ومشربه.

                                                                                                                                                                                                                              وبنحو هذا أورد الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن وهب من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: "إذا (سددت كلب) الجوع برغيف وكوز من الماء القراح فعلى الدنيا الدمار" .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو داود من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - مرفوعا: "كل شيء فضل عن ظل بيت وجلف الخبز -يعني: كسرة الخبز- وثوب يستره فضل

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 111 ] ليس لابن آدم فيه حق" فأخبر - عليه السلام - أن لابن آدم من الطعام ما سد به كلب جوعه، ومن الماء ما قطع ظمأه، ومن اللباس ما ستر عورته، ومن المساكن ما أظله فكنه من حر وقر، وأن لا حق له فيما عدا ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              فالمتجاوز من ذلك ما حدده الشارع خاطب على نفسه متحمل ثقل وباله ولو لم يكسب المقل من الأكل إلا التخفيف عن بدنه من كظ المعدة ونتن التخمة، لكان جريانه يجري ذلك لها طلب الترويح عنها، فكيف والإكثار منه الداء العضال، وبه كان يتعاير أهل الجاهلية والإسلام.

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث أنس هذا وعبد الرحمن بن أبي بكر الآتي علم من أعلام نبوته، وهو الأكل من الطعام اليسير العدد الكثير حتى شبعوا ببركته.

                                                                                                                                                                                                                              وروى أنس أيضا حديث بعثه (أبا) طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدعوه. وفيه: فأخرج لهم شيئا من بين أصابعه ، وهذا غير الأول، وهو من أعلام نبوته أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثاني:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما - في المشرك المشعان الذي اشترى منه الشاة، والسالف في البيوع والهبة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 112 ] ووجه إيراده هنا: أمره - عليه السلام - بسواد البطن فشوي وايم الله ما في الثلاثين ومائة إلا قد حز له حزة من سواد بطنها، إن كان شاهدا أعطاه، وإن كان غائبا خبأها له، ثم جعل فيها قصعتين، فأكلنا أجمعون وشبعنا، وفضل في القصعتين، فحملته على البعير. أو كما قال.

                                                                                                                                                                                                                              والمشعان: المنتفش الشعر، الثائر الرأس، وقيل: هو شعث الرأس. يقال: شعر مشعان ورجل مشعان، ومشعان الرأس، والميم زائدة.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: استعجال شي الكبد. وحز له حزة: قطع له قطعة.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: أن الغائب يترك له سهمه، ولا يهمل حقه لغيبته. والقصعة: بفتح القاف، وجمعها: قصاع.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثالث:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عائشة - رضي الله عنها - توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - حين شبعنا من الأسودين، التمر والماء.

                                                                                                                                                                                                                              سلف، وأخرجه مسلم أيضا ، ويأتي في باب الرطب والتمر .

                                                                                                                                                                                                                              والعرب تقول: الأسودان: التمر والماء، والأحمران: اللحم والشراب، وقيل: الذهب والزعفران، والأبيضان: الماء واللبن، والأسمران: الماء والملح. قال بعضهم: وهذه تسمية للشيء بما قاربه وذلك أن الأسود منهما التمر خاصة، وكذلك العمران لأبي بكر وعمر فغلبوا عمر لأنه أخف. وأبعد من قال: هما عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية