الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      4904 حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب قال أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة في زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة فإذا هو يصلي صلاة خفيفة دقيقة كأنها صلاة مسافر أو قريبا منها فلما سلم قال أبي يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أو شيء تنفلته قال إنها المكتوبة وإنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخطأت إلا شيئا سهوت عنه فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ثم غدا من الغد فقال ألا تركب لتنظر ولتعتبر قال نعم فركبوا جميعا فإذا هم بديار باد أهلها وانقضوا وفنوا خاوية على عروشها فقال أتعرف هذه الديار فقلت ما أعرفني بها وبأهلها هذه ديار قوم أهلكهم البغي والحسد إن الحسد يطفئ نور الحسنات والبغي يصدق ذلك أو يكذبه والعين تزني والكف والقدم والجسد واللسان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه

                                                                      التالي السابق


                                                                      ( أنه دخل هو ) : أي سهل ( وأبوه ) : أي أبو أمامة ( وهو أمير المدينة ) : أي وكان أنس أمير المدينة من قبل عمر بن عبد العزيز ( فإذا هو ) : أي أنس ( يصلي صلاة خفيفة دقيقة ) : بدال مهملة وقافين بينهما تحتية ساكنة . وفي نسخة الخطابي : ذفيفة بذال معجمة وفاءين بينهما تحتية ساكنة .

                                                                      وقال في المعالم : معنى الذفيفة الخفيفة ، يقال رجل خفيف ذفيف وخفاف وذفاف بمعنى واحد . انتهى .

                                                                      وفي القاموس : خفيف ذفيف وخفاف ذفاف بالضم اتباع وليعلم أنه ليس المراد أنه - رضي الله عنه - كان يخل بالصلاة ويترك سنة القراءة والتسبيحات ويتهاون في أدائها بل المراد أنه كان يقتصر على قدر الكفاية في ذلك فكان يكتفي على قراءة السورة القصيرة وعلى ثلاث [ ص: 203 ] مرات من التسبيح مع رعاية القومة والجلسة واعتدال سائر الأركان والظاهر أنه كان إماما يصلي بالناس لأنه كان أميرا فخفف اتباعا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم - : إذا أم أحدكم الناس فليخفف الحديث رواه الشيخان .

                                                                      وأما سؤال أبي أمامة بقوله : أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أو شيء تنفلته وتشبيهها بصلاة المسافر من أجل التخفيف فلعله لم يستحضر له إذ ذاك حديث التخفيف ، ويحتمل أن يكون أبو أمامة حمل حديث التخفيف على تخفيف دون التخفيف الذي حمله عليه أنس - رضي الله عنه - فلأجل ذلك قال أبو أمامة ما قال ومن قوله في زمان عمر بن عبد العزيز إلى قوله ما أخطأت إلا شيئا سهوت عنه يوجد في بعض النسخ ولم يوجد في بعضها . وكذا ليس في مختصر المنذري . والله أعلم .

                                                                      ( كأنها ) : أي صلاة أنس باعتبار التخفيف فيها ( فلما سلم ) : أي أنس من صلاته ( قال أبي ) : أي أبو أمامة ( أرأيت ) : أي أخبرني ( هذه الصلاة ) أي التي صليتها الآن ( المكتوبة أو شيء تنفلته ) : أي فريضة أو نافلة ( ما أخطأت ) : أي ما تعمدت الخطأ في هذه الصلاة .

                                                                      ( لا تشددوا على أنفسكم ) : أي بالأعمال الشاقة كصوم الدهر وإحياء الليل كله واعتزال النساء ( فيشدد عليكم ) : بالنصب جواب النهي أي يفرضها عليكم ، فتقعوا في الشدة أو بأن يفوت عنكم بعض ما وجب عليكم بسبب ضعفكم من تحمل المشاق ( في الصوامع ) : جمع صومعة وهي موضع عبادة الرهبان ( رهبانية ) : نصب بفعل يفسره ما بعده ، أي ابتدعوا رهبانية ( ما كتبناها عليهم ) : أي ما فرضنا تلك الرهبانية ( ثم غدا ) : أي خرج أبو أمامة غدوة ( فقال ) : أي أنس ( باد ) : أي هلك ( وقتوا ) : بالقاف والتاء المشددة . وفي بعض النسخ فنوا [ ص: 204 ] من الفناء ومعناه ظاهر وهو المراد من قتوا .

                                                                      قال في القاموس : اقتته استأصله ( خاوية على عروشها ) : أي ساقطة على سقوفها ، والظاهر أنه صفة ثانية لديار وصفته الأولى هي قوله باد أهلها .

                                                                      ( فقال أتعرف هذه الديار ) : الظاهر أن الضمير في قال راجع إلى أنس - رضي الله عنه - أي قال أنس لأبي أمامة هل تعرف هذه الديار البائدة ( فقال ) : أي أبو أمامة ( ما أعرفني بها وبأهلها ) : أي أي شيء أعرفني بهذه الديار وأهلها الذين كانوا فيها يعني لا أعرفها ولا أهلها فما استفهامية والاستفهام للإنكار ( هذه ديار قوم إلخ ) : هذا مقول أنس أي قال أنس هذه ديار قوم . فلفظ قال هذه الجملة مقدر هذا هو الظاهر .

                                                                      ويحتمل أن يكون الضمير في فقال الأول راجعا إلى أبي أمامة ، وفي فقال الثاني إلى أنس أي فقال أبو أمامة لأنس هل تعرف هذه الديار؟ فقال أنس : ما أعرفني بها وبأهلها إلخ .

                                                                      وعلى هذا التقدير يكون قوله ما أعرفني بها وبأهلها صيغة التعجب ، ويكون حاصل المعنى قال أنس أعرف هذه الديار وأهلها حق المعرفة ، وعلى هذا فلا حاجة إلى تقدير لفظ قال قبل قوله هذه ديار قوم . ومن قوله ثم غدا من الغد إلى قوله والفرج يصدق ذلك أو يكذبه يوجد في بعض النسخ ولم يوجد في بعضها وكذا ليس في مختصر المنذري ، والله أعلم .

                                                                      ثم ظفرت على كلام للحافظ ابن القيم تكلم به في كتاب الصلاة له على هذا الحديث وهو حسن نافع جدا فأنا أنقله بعينه ها هنا قال .

                                                                      وأما حديث سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء ودخول سهل بن أبي أمامة عن أنس بن مالك فإذا هو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر فقال : إنها لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا مما تفرد به ابن أبي العمياء وهو شبه المجهول ، والأحاديث الصحيحة عن أنس كلها تخالفه فكيف يقول أنس هذا وهو القائل : إن أشبه من رئي صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن عبد العزيز وكان يسبح عشرا عشرا وهو الذي كان يرفع رأسه من الركوع حتى يقال قد نسي وكذلك من بين السجدتين ويقول ما آلوا أن أصلي لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي يبكي على [ ص: 205 ] إضاعتهم الصلاة .

                                                                      ويكفي في رد حديث ابن أبي العمياء ما تقدم من الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن في سندها ولا شبهة في دلالتها . فلو صح حديث ابن أبي العمياء وهو بعيد عن الصحة لوجب حمله على أن تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم للسنة الراتبة كسنة الفجر والمغرب والعشاء وتحية المسجد ونحوها لا أن تلك صلاته التي كان يصليها بأصحابه دائما ، وهذا مما يقطع ببطلانه وترده سائر الأحاديث الصحيحة الصريحة .

                                                                      ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخفف بعض الصلاة كما كان يخفف سنة الفجر حتى تقول عائشة أم المؤمنين هل قرأ فيها بأم القرآن ، وكان يخفف الصلاة في السفر حتى كان ربما قرأ في الفجر بالمعوذتين ، وكان يخفف إذا سمع بكاء الصبي . فالسنة التخفيف حيث خفف والتطويل حيث أطال والتوسط غالبا . فالذي أنكره أنس هو التشديد الذي لا يخفف صاحبه على نفسه مع حاجته إلى التخفيف ، ولا ريب أن هذا خلاف سنته وهديه . انتهى كلام ابن القيم .

                                                                      قلت : أخرج أبو داود والنسائي عن ابن جبير قال : سمعت أنس بن مالك يقول : " ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز قال فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات " وإلى هذا الحديث أشار ابن القيم بقوله وهو القائل إن أشبه من رأى إلخ .

                                                                      والحديث سكت عنه المنذري .




                                                                      الخدمات العلمية