الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم إنه بعد بيان هذه الحقيقة من حق الله والتقرب إليه ، بين له حقيقة أخرى ، وهي ما يجب للناس ، ولا سيما الإخوة ، بعضهم على بعض من احترام الدماء وحفظ الأنفس ، فقال : ( لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ) أي بين له حاله ، وما تقتضيه من عدم مقابلته على جنايته بمثلها ، مؤكدا ذلك بالقسم ، وبجملة النفي الاسمية [ ص: 284 ] المقرون خبرها بالباء ، وهو أنه إن بسط يده - أي مدها - ليقتله بها لا يجزيه بالسيئة سيئة مثلها ، وأن هذه الجناية لا تأتي منه ولا تتفق مع صفاته وشمائله ; ذلك أنه لم يعبر عن نفسه بصيغة الفعل المضارع المنفي ، كما عبر بالماضي المثبت عن عمل أخيه ، وهو المتبادر في مقابلة الشيء بضده ، بل قال ( ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ) أي لست بالذي يتصف بهذه الصفة المنكرة المنافية لتقوى الله تعالى ولا شك أن نفي الصفة أبلغ من نفي الفعل ، الذي هو عبارة عن الوعد بالترك ; لأنه عبارة عن وعد مؤكد ببيان سببه ، ثم أكده تأكيدا آخر ببيان علته ، وهو قوله : ( إني أخاف الله رب العالمين ) أن يراني باسطا يدي إلى الإجرام وسفك الدم بغير حق ، فإن ذلك يسخطه ، ويكون سبب عقابه ; لأنه رب العالمين الذي يغذيهم بنعمه ، ويربيهم بفضله وإحسانه ; فالاعتداء على أرواحهم أعظم مفسد لهذه التربية ومعارض لها في بلوغ غاية استعدادها ، ومن يخاف الله لا يعتدي هذا الاعتداء . وهذا الجواب من الأخ التقي يتضمن أبلغ الموعظة وألطف الاستعطاف لأخيه العازم على الجناية ، ولا يقال : إنه كان يجوز له الدفاع عن نفسه ، ولو بقتل الصائل عليه ، حتى يحتاج إلى الجواب بأن شرع آدم لم يكن يبيح ذلك ، فإن هذا من الرجم بالغيب . والدفاع قد يكون بما دون القتل ، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم : " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه ; فالقاتل والمقتول في النار . قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ ! قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه " رواه أحمد والشيخان وغيرهم .

                          ولما كان مثل هذا التأمين والوعظ البليغ لا يؤثر في كل نفس قفى عليه هذا الأخ البار بالتذكير بعذاب الآخرة ، فقال : ( إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ) أي إني أريد بما ذكرت من اتقاء مقابلة الجناية بمثلها أن ترجع أنت إن فعلتها متلبسا بإثمي وإثمك ; أي إثم قتلك إياي وإثمك الخاص بك ، الذي كان من شؤمه عدم قبول قربانك ، وهذا التفسير مأثور عن ابن عباس رضي الله عنه ، وفي وجه آخر ، وهو أنه مبني على كون القاتل يحمل في الآخرة إثم من قتله إن كان له آثام ; لأن الذنوب والآثام التي فيها حقوق للعباد ، لا يغفر الله تعالى منها شيئا حتى يأخذ لكل ذي حق حقه ، وإنما القصاص في الآخرة بالحسنات والسيئات ، فيعطى المظلوم من حسنات الظالم ما يساوي حقه إن كان له حسنات توازي ذلك ، أو يحمل الظالم من آثام المظلوم وأوزاره ما يوازي ذلك إن كان له آثام أو أوزار ، وما نقص من هذا أو ذاك يستعاض عنه بما يوازيه من الجزاء في الجنة أو النار ، وفي ذكر المتكلم إثمه وإثم أخيه تواضع وهضم لنفسه بإضافة الإثم إليها على الوجه الثاني ، وتذكير للمخاطب بأنه ليس له حسنات توازي هذا الظلم الذي عزم عليه ; ولذلك رتب عليه قوله : ( فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ) أي تكون بما حملت من الإثمين من [ ص: 285 ] أهل النار في الآخرة ; لأنك تكون ظالما ، والنار جزاء كل ظالم ، فتكون من أهلها حتما . ترقى في صرفه عن عزمه من التبرؤ إليه من سبب حرمانه من قبول قربانه ببيان سبب التقبل عند الله تعالى وهو التقوى ، إلى تنزيه نفسه من جزائه على جنايته بمثلها ، إلى تذكيره بما يجب من خوف الله تعالى رب العالمين ، الذي لا يرضيه ممن وهبهم العقل والاختيار إلا أن يتحروا إقامة سننه في تربية العالم وإبلاغ كل حي يقبل الكمال إلى كماله ، إلى تذكيره بأن المعتدي يحمل إثم نفسه وإثم من اعتدى عليه بعدل الله تعالى في القصاص والجزاء إلى تذكيره بعذاب النار وكونها مثوى للظالمين الفجار ، فماذا كان من تأثير هذه المواعظ في نفس ذلك الحاسد الظالم ؟ بين الله ذلك بقوله :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية