الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ حد جزيرة العرب ]

                          وقال [ عبد الله ] بن حنبل : [ حدثني أبي قال : ] قال عمي : جزيرة [ ص: 378 ] العرب يعني المدينة وما والاها ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجلى يهود فليس لهم أن يقيموا بها .

                          وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول : حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يبقى دينان بجزيرة العرب " تفسيره : ما لم يكن في يد فارس والروم .

                          وقال الأصمعي : كل ما كان دون أطراف الشام .

                          وقال إبراهيم بن هانئ : سئل أبو عبد الله عن جزيرة العرب ، فقال : ما لم يكن في يد فارس والروم قيل له : ما كان خلف العرب ؟ قال : نعم .

                          وفي " المغني " : " جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن ، [ ص: 379 ] قاله سعيد بن عبد العزيز .

                          وقال الأصمعي وأبو عبيد : هي من ريف العراق إلى عدن طولا ، ومن تهامة وما وراءها إلى أطراف الشام عرضا .

                          [ ص: 380 ] وقال أبو عبيدة : هي من حفر أبي موسى إلى اليمن طولا ، ومن رمل يبرين إلى منقطع السماوة عرضا .

                          [ ص: 381 ] قال الخليل : إنما قيل لها : " جزيرة العرب " لأن بحر الحبش وبحر فارس والفرات قد أحاطت بها ، ونسبت إلى العرب لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها .

                          وقول الإمام أحمد : جزيرة العرب : المدينة وما والاها ، يريد مكة واليمامة وخيبر [ ص: 382 ] [ ص: 383 ] والينبع وفدك ومخاليفها وما والاها ، وهذا قول الشافعي : لأنهم لم يعجلوا من تيماء ولا من اليمن .

                          قلت : وهذا يرد قول سعيد بن عبد العزيز : إنها ما بين الوادي إلى أقصى اليمن ، إلا أن يريد أوله .

                          [ ص: 384 ] وحديث أبي عبيدة صريح في أن أرض نجران من جزيرة العرب ، فإنه قال : " أخرجوا أهل نجران ويهود أهل الحجاز من جزيرة العرب " ، وكذا قوله لعلي رضي الله عنه : " أخرج أهل نجران من جزيرة العرب " .

                          قال أبو عبيد : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال : جاء أهل نجران إلى علي رضي الله عنه فقالوا : شفاعتك بلسانك ، وكتابك بيدك ، أخرجنا عمر من أرضنا فردها إلينا صنيعة ، فقال : ويلكم إن عمر كان رشيد الأمر ولا أغير شيئا صنعه عمر .

                          قال أبو معاوية : قال الأعمش : فكانوا يقولون : لو كان في نفسه عليه شيء لاغتنم هذا .

                          قلت : وهذا يدل على أن حديث علي رضي الله عنه الذي ذكرناه قبل غير محفوظ ، فإنه لو كان عنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بإخراج أهل نجران من جزيرة العرب لم يعتذر بأن عمر قد فعل ذلك ، وكان رشيد الأمر أو لعله نسي الحديث أو أحال على عمر رضي الله عنه قطعا لمنازعتهم وطلبهم .

                          فإن قيل : فأهل نجران كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صالحهم وكتب لهم كتاب أمن على أرضهم وأنفسهم وأموالهم ، فكيف استجاز [ ص: 385 ] عمر رضي الله عنه إخراجهم ؟ قيل : قد قال أبو عبيد : " إنما نرى عمر قد استجاز إخراج أهل نجران وهم أهل صلح ، لحديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم خاصة ، يحدثونه عن إبراهيم بن ميمون مولى آل سمرة عن ابن سمرة عن أبيه عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان آخر ما تكلم به أن قال : " أخرجوا اليهود من الحجاز وأخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب " .

                          فإن قيل : زدتم الأمر إشكالا ، فكيف أمر بإخراجهم وقد عقد معهم الصلح ؟ قيل : الصلح كان معهم بشروط فلم يفوا بها ، فأمر بإخراجهم .

                          قال أبو عبيد : وإنما نراه قال ذلك لنكث كان منهم ، أو لأمر أحدثوه بعد الصلح .

                          قال : وذلك بين في كتاب كتبه عمر رضي الله عنه إليهم قبل إجلائه إياهم منها .

                          حدثنا ابن أبي زائدة عن ابن عون قال : قال لي محمد بن سيرين : انظر كتابا قرأته عند فلان بن جبير ، فكلم فيه زياد بن جبير ، قال : فكلمته فأعطاني ، فإذا في الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم من عمر أمير المؤمنين إلى أهل رعاش كلهم ، سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو أما بعد : فإنكم زعمتم أنكم مسلمون ثم ارتددتم بعد ، وإنه من يتب [ ص: 386 ] منكم ويصلح لا يضره ارتداده ونصاحبه صحبة حسنة ، فادكروا ولا تهلكوا وليبشر من أسلم منكم ، فإن أبى إلا النصرانية فإن ذمتي بريئة ممن وجدناه بعد عشر تبقى من شهر الصوم من النصارى بنجران .

                          أما بعد ، فإن يعلى كتب يعتذر أن يكون أكره أحدا منكم على الإسلام أو عذبه عليه إلا أن يكون [ قسرا جبرا و ] وعيدا لم ينفذ إليه منه شيء .

                          أما بعد ، فقد أمرت يعلى أن يأخذ منكم نصف ما عملتم من الأرض ، وإني لن أريد نزعها منكم ما أصلحتم .

                          [ ص: 387 ] وقال الشيخ في " المغني " فأما إخراج أهل نجران منها فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالحهم على ترك الربا فنقضوا عهده .

                          فإن قيل : فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أقر أهل خيبر بها إلى أن قبضه الله وهي من جزيرة العرب ، وأصرح من هذا أنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي بالمدينة على ثلاثين صاعا من شعير أخذه لأهله .

                          قيل : أما إقرار أهل خيبر فإنه لم يقرهم إقرارا لازما ، بل قال : " نقركم [ ص: 388 ] ما شئنا " وهذا صريح في أنه يجوز للإمام أن يجعل عقد الصلح جائزا من جهته متى شاء نقضه بعد أن ينبذ إليهم على سواء ، فلما أحدثوا ونكثوا أجلاهم عمر رضي الله عنه .

                          فروى البخاري في " صحيحه " عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما فدع أهل خيبر عبد الله بن عمر قام عمر خطيبا فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عامل يهود خيبر على أموالهم ، وقال : " نقركم ما أقركم الله تعالى " ، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعدي عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه وليس لنا هناك عدو غيرهم ، هم عدونا وتهمتنا ، وقد رأيت إجلاءهم .

                          فلما أجمع عمر رضي الله عنه على ذلك أتاه أحد بني [ أبي ] الحقيق فقال : يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا محمد وعاملنا على الأموال وشرط ذلك لنا ؟ فقال عمر رضي الله عنه : أظننت أني نسيت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك [ ص: 389 ] قلوصك ليلة بعد ليلة ؟ فقال : كانت هذه هزيلة من أبي القاسم ، فقال : كذبت يا عدو الله ، قال : فأجلاهم عمر رضي الله عنه وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالا وإبلا وعروضا من أقتاب وحبال وغير ذلك .

                          وفي " صحيحه " أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أتى [ ص: 390 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم ، وغلبهم على الأرض والزرع والنخل فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفراء والبيضاء والحلقة - وهي السلاح ، ويخرجون منها ، واشترط عليهم ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئا ، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعم حيي - واسمه سعية - : ما فعل مسك حيي الذي جاءوا به من النضير ؟ قال : أذهبته النفقات والحروب ، فقال العهد قريب والمال أكثر من ذلك ، وقد كان حيي قتل قبل ذلك ، فدفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعية إلى الزبير فمسه بعذاب ، فقال : قد رأيت حييا يطوف في خربة هاهنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة ، فقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابني أبي الحقيق وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب ، وسبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءهم وذراريهم ، وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا ، وأراد أن يجليهم منها فقالوا : يا محمد دعنا نكن في هذه الأرض نصلحها ونقم عليها ، ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها ولا يفرغون أن يقوموا ، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع وتمر ما بدا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                          [ ص: 391 ] وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم في كل عام يخرصها عليهم ، ثم يضمنهم الشطر فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شدة خرصه ، وأرادوا أن يرشوه فقال عبد الله : أتطعمونني السحت ؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي ، ولأنتم أبغض الناس إلي من عدلكم من القردة والخنازير ، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على ألا أعدل عليكم .

                          فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقا من تمر كل عام وعشرين وسقا من شعير ، فلما كان زمان عمر رضي الله عنه غشوا المسلمين ، وألقوا ابن عمر من فوق بيت ففدعوا يديه ، فقال عمر : من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها بينهم ، فقسمها عمر رضي الله عنه بينهم .

                          فقال رئيسهم : لا تخرجنا ، دعنا نكن فيها كما أقرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر ، فقال عمر رضي الله عنه لرئيسهم : أتراه سقط علي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كيف بك إذا رقصت بك راحلتك نحو الشام يوما ثم يوما ثم يوما " ، وقسمها عمر رضي الله عنه بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية
                          .

                          [ ص: 392 ] وأما رهن النبي - صلى الله عليه وسلم - درعه عند اليهودي فلعله من اليهود الذين كانوا يقدمون المدينة بالميرة والتجارة من حولها ، أو من أهل خيبر وإلا فيهود المدينة كانوا ثلاث طوائف : بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة .

                          فأما بنو قينقاع فحاربهم أولا ، ثم من عليهم . وأما بنو النضير فأجلاهم إلى خيبر وأجلى بني قينقاع أيضا ، وقتل بني قريظة وأجلى كل يهودي كان بالمدينة ، فهذا اليهودي المرتهن : الظاهر أنه من أهل العهد قدم المدينة بطعام أو كان ممن لم يحارب فبقي على أمانه ، فالله أعلم .

                          فهذا أصل إجلاء الكفار من أرض الحجاز ثم اختلف الفقهاء بعد ذلك قال مالك : أرى أن يجلوا من أرض العرب كلها ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب " .

                          وفي " صحيح مسلم " من حديث عمر رضي الله عنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، حتى لا أدع فيها إلا مسلما " .

                          وقال الشافعي : يمنعون من الحجاز ، وهو مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها وهي قراها .

                          [ ص: 393 ] أما غير الحرم منه فيمنع الكتابي وغيره من الاستيطان والإقامة به وله الدخول بإذن الإمام لمصلحة كأداء رسالة أو حمل متاع يحتاج إليه المسلمون ، وإن دخل لتجارة ليس فيها كثير حاجة ، لم يؤذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارته شيئا ، ولا يمكن من الإقامة أكثر من ثلاث .

                          وقد أدخل بعض أصحاب الشافعي اليمن في جزيرة العرب ، ومنعهم من الإقامة فيها وهذا وهم ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذا قبل موته إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا ، وأقرهم فيها وأقرهم أبو بكر بعده ، وأقرهم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، ولم يجلوهم من اليمن مع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلم يعرف عن إمام أنه أجلاهم من اليمن .

                          وإنما قال الشافعي وأحمد : يخرجون من مكة والمدينة واليمامة وخيبر وينبع ومخاليفها ولم يذكرا اليمن ، ولم يجلوا من تيماء أيضا وكيف يكون اليمن من جزيرة العرب وهي وراء البحر فالبحر بينها وبين الجزيرة ؟ فهذا القول غلط محض . [ ص: 394 ] [ حكم دخول أهل الذمة الحرم ]

                          وأما الحرم فإن كان حرم مكة فإنهم يمنعون من دخوله بالكلية ، فلو قدم رسول لم يجز أن يأذن له الإمام في دخوله ، ويخرج الوالي أو من يثق به إليه ولا يختص المنع بخطة مكة بل بالحرم كله .

                          وأما حرم المدينة فلا يمنع من دخوله لرسالة أو تجارة أو حمل متاع .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية