الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم هؤلاء الذين يقولون: إنهم في توحيد الربوبية ظانين أنهم في الجمع، وأنهم وصلوا إلى عين الحقيقة، لا بد لهم من شهود التفرقة والتمييز حسا، فضلا عن العقل والشرع.

فإن أحدهم لا بد ما يميز بين ما يؤلمه ويلذه، وينفعه ويضره، [وبين ما] يكرهه ويضر به، وبين الخبز والماء، والتراب والحجر، ونحو ذلك.

ولا بد أن يميل إلى ما يجلب له المنفعة، ويفر عما يدفع إليه المضرة، فيكون جسدي التفرقة، يحب هذا ويبغض هذا، ويأمر بهذا وينهى عن [ ص: 165 ] هذا. فإن لم تكن التفرقة بين الخير والشر بالتفريق الشرعي النبوي المحمدي القرآني، وإلا فلا بد من قانون آخر يفرق، إما سياسة بعض الملوك، أو ذوق بعض الشيوخ، أو رأي بعض الفقهاء، أو أغراض ذوي الأغراض، بحسب تنوعها واختلافها، ولزوم مجرد ظنه وهواه.

فلهذا تجد هؤلاء أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن. وهم يفرقون بين ما يفعل وبين ما لا يفعل، وما يؤمر به وما لا يؤمر به، وما ينبغي فعله، وما ينبغي تركه بهذه الوجوه وأمثالها.

وربما أضافوا ذلك إلى الله من جهة الحقيقة الكونية، وشمول الربوبية. ومعلوم أن جميع الأشياء مضافة إلى الله من هذه الجهة، فلا فرق بين ما يأمرون به وينهون عنه حينئذ.

وهذه حال المشركين الذين أخبر الله عنهم في كتابه، أنهم يأمرون وينهون بغير كتاب نزل من الله، وأنهم يحتجون في ذلك بقدر الله، فقال تعالى: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون [الأعراف: 28]. [ ص: 166 ]

وقال: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا ... الآية [الأعراف: 32].

وقال تعالى: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء الآية [الأنعام: 148].

وأصحاب هذا النوع لا يكونون مع النوع الأول، بل يضادونهم من وجوه كثيرة، ويفوتهم ما خص الله به أولئك من تحقيق التوحيد، وكمال التحقيق، وبابه: المعرفة والإيمان، فإن أولئك صاروا مخلصين لله الدين، فيعبدونه ولا يعبدون غيره.

وهؤلاء لا فرق عندهم بين ما يوجد من عبادته ومن عبادة غيره، ولا بين الإيمان به والكفر به، ولا بين ما يحبه ويأمر به، وبين ما يبغضه وينهى عنه.

فلا بد لهم من الفرق ضرورة وحسا، فإذا لم يكن تفريقهم هو الفرق التوحيدي الإيماني صار فرقا آخر، فيسألون غير الله، [ ص: 167 ] ويتوكلون على غير الله، بل يعبدون غير الله، ويقعون في المحرمات من الفواحش والمظالم، ويعرضون عن الواجبات، حتى عن الفرائض; لأن قلوبهم ليست مخلصة لله الدين، فليسوا من أهل التوحيد الأول. وأولئك هم الذين قال الله تعالى فيهم: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان [الحجر: 42]. وقال: إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون [النحل: 99]. وقال الشيطان: فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ص: 82 - 83]. وقال: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [العنكبوت: 61].

وهؤلاء يرون حالهم مرتفعة عن حال الذين يشهدون جمعهم وتوحيدهم، وهم العامة الذين تفرقت قلوبهم في المخلوقات، وهم أهل الفرق الأول، ومع هذا فهم في الحقيقة راجعون إلى فرق أولئك; إذ لا بد لهم من الفرق، فإن لم يكونوا في الفرق الإلهي النبوي الشرعي كانوا في فرق آخر، وهذا حال العامة، بل العامة خير منهم من وجه، وذلك أنهم يؤمنون بالجمع والفرق، بأن الله رب كل شيء ومليكه، وبأنه يأمر بالحسنات، وينهى عن القبائح.

وإذا تفرقة العامة بحسب أهوائها، لم تجعل ذلك دينا، بل تعرف أنه ذنب وقبح، ولا يقولون: إنه يسقط عنهم الأمر والنهي. [ ص: 168 ]

وهؤلاء قد يرون سقوط الأمر والنهي عنهم، فتكون العامة خيرا منهم، لكن يميزون عن العامة بأن الجمع لهم حالا وشهودا، بخلاف العامة، فإن لهم إيمانا وإقرارا، وهذا لا يقع لوجهين:

أحدهما: أنهم كاذبون في دوام شهودهم الجمع والعمل به; إذ لا بد من الفرق حسا وعقلا، وذوقا وشرعا.

الثاني: أن صحة الإيمان مع الغفلة والسهو خير من ذكر وشهود يصحبه فساد الإيمان.

وقد يقول أحدهم: إن المحبة والتوكل ونحو ذلك من مقامات العامة السائرين في منازل الشرع إلى عين الحقيقة، وهذه الحقيقة التي انتهوا إليها هي الربوبية العامة المطلقة التي أقر بها المشركون.

لكن كثير من هؤلاء لا يقولون بالجمع إلا مع تمييز بعض الواجبات من بعض، فيميز بين ما يأمر به هو وينهى عنه من نفسه، لكن لا يميز في شهوده ذلك.

وربما تأولوا قوله تعالى: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين [الحجر: 99]. وظنوا أن المقصود من العبادة أن يحصل له يقين بالربوبية العامة ونحو ذلك، فلا يحتاج حينئذ إلى العبادة.

وهذا ضلال باتفاق أهل العلم والإيمان، فإن اليقين هو الموت وما بعده، كما قال الحسن البصري: « لم يجعل الله لأجل المؤمن غاية دون [ ص: 169 ] الموت».

كما قال تعالى في الآية الأخرى: وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين [المدثر: 47 - 48]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أما عثمان بن مظعون فقد أتاه اليقين من ربه». واتفق المسلمون على أن الأمر والنهي لازم لكل عبد حتى يموت.

ومن أكابر هؤلاء من يكون فيه نوع من التجهم والجبر، كالسالكين طريق ابن التومرت وأمثاله ممن ينفي الصفات أو بعضها [كالجهمية] وأمثالهم من الأشعرية ممن لا يقول: إن فوق العالم ربا مباينا، ويكون مبالغا في إثبات القدر حتى يجعل المحبة والرجاء بمعنى الإرادة، ويجعل الكفر والفسوق والعصيان محبوبا مرضيا كالإيمان والطاعة; إذ الجميع عنده مراد الله.

فهؤلاء إذا انتهوا إلى ما يظنونه الفناء في حقائق التوحيد كان مضمونه سقوط الأمر والنهي، لا يفرقون بين الحسنات والسيئات، ويشهدون ربا مطلقا، ويقرون مجملا أنه ليس هو المخلوقات، لكن [ ص: 170 ] ليس في أصل عقدهم وعلمهم وإيمانهم إقرار بمباينته للمخلوقات وامتيازه عنها، فيقعون في نوع من الإشراك والجمع بين الخالق والمخلوق، وبين المأمور به والمنهي عنه.

التالي السابق


الخدمات العلمية