الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله ) فسروا طوعت بشجعت ، وهو مأثور عن ابن عباس ومجاهد ، وبوسعت وسهلت وزينت ونحو ذلك من الألفاظ التي رويت عن مفسري السلف وعلماء اللغة ، وكل منها يشير إلى حاصل المعنى في الجملة ، ولم أر أحدا شرح بلاغة هذه الكلمة في هذا الموضع ببعض ما أجد لها من التأثير في نفسي ، وإنها لبمكان من البلاغة يحيط بالقلب ويضغط عليه من كل جانب .

                          ( ق والقرآن المجيد ) ( 50 : 1 ) إنني أكتب الآن ، وقلبي يشغلني عن الكتابة بما أجد لها فيه من الأثر والانفعال . إن هذه الكلمة تدل على تدريج وتكرار في حمل الفطرة على طاعة الحسد الداعي إلى القتل ; كتذليل الفرس والبعير الصعب ، فهي تمثل - لمن يفهمها - ولد آدم الذي زين له حسده لأخيه قتله ، وهو بين إقدام وإحجام ، يفكر في كل كلمة من كلمات أخيه الحكمية ، فيجد في كل منها صارفا له عن الجريمة ، يدعم ويؤيد ما في الفطرة من صوارف العقل والقرابة والهيبة ، فكر الحسد من نفسه الأمارة على كل صارف في نفسه اللوامة ، فلا يزالان يتنازعان ويتجاذبان حتى يغلب الحسد كلا منها ويجذبه إلى الطاعة ، فإطاعة صوارف الفطرة وصوارف الموعظة لداعي الحسد هو التطوع الذي عناه الله تعالى . فلما تم كل ذلك قتله . وهذا المعنى يدل عليه اللفظ ويؤيده ما يعرف من حال البشر في كل عصر بمقتض ، فنحن نرى من أحوال الناس واختبار القضاة للجناة أن كل من تحدثه نفسه بقتل أخ له من أبيه القريب أو البعيد ( آدم ) يجد من نفسه صارفا ، أو عدة صوارف تنهاه عن ذلك ، فيتعارض المانع والمقتضي في نفسه زمنا طويلا أو قصيرا ، حتى تطوع له نفسه القتل بترجيح المقتضي عنده على الموانع ، فعند ذلك يقتل إن قدر . فالتطويع لا بد فيه من التكرار كتذليل الحيوان الصعب ، وتعليم الصناعة أو العلم ، وقد يكون التكرار لأجل إطاعة مانع أو صارف واحد ، وقد يكون لإطاعة عدة صوارف وموانع ، وأقرب الألفاظ التي قيلت إلى هذا المعنى [ ص: 286 ] كلمة " التشجيع " المأثورة ، فهي تدل على أنه كان يهاب قتل أخيه ، وتجبن فطرته دونه ، فما زالت نفسه الأمارة بالسوء تشجعه عليه حتى تجرأ وقتل عقب التطويع بلا تفكر ولا تدبر للعاقبة ( فأصبح من الخاسرين ) أي من جنس الذين خسروا أنفسهم ، بإفساد فطرتها ، وخسروا أقرب الناس إليهم وأبرهم بهم في الدنيا ، وهو الأخ الصالح التقي ، وخسروا نعيم الآخرة ; إذ لم يعودوا أهلا لها ; لأنها دار المتقين .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية