الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت هذا فالنذور تنقسم على سبعة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : ما يلزمه فيه الوفاء بما أوجبه على نفسه وهو نذر الجزاء والتبرر إذا قال :

                                                                                                                                            إن شفاني الله تصدقت بمالي ، أو حججت البيت الحرام ، أو صمت شهرا ، أو صليت ألف ركعة ، فعليه إذا شفاه الله أن يفعل ما التزمه من الصدقة بماله كله .

                                                                                                                                            وفي قدر ما يستر به عورته وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يتصدق به لأنه من ماله .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يجوز أن يتصدق به لاستثنائه بالشرع في حقوق الله تعالى ، فخرج من عموم نذره .

                                                                                                                                            وإن أوجب الحج لزمه أن يحج مستطيعا كان أو غير مستطيع ، بخلاف حجة الإسلام التي يتعلق وجوبها بالاستطاعة وتعلق وجوب هذه بالنذور ، وإن أوجب الصلاة صلى ، وفي وجوب القيام فيها وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يلزمه القيام فيها مع القدرة لوجوبها كالفروض .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يلزمه القيام فيها ؛ لأنها لم تجب عليه بأصل الشرع ، فكانت بالتطوع أشبه .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : ما يلزمه فيه من الصدقة بقليل ماله ، وهو أن يقول : إن شفاني الله فلله علي نذر ، فينصرف إطلاق هذا النذر إلى الصدقة ؛ لأنها أغلب من عرف النذور ولا يتعذر إطلاقها بمال ، فجازت بقليل المال اعتبارا بالاسم .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : ما يلزم فيه الكفارة وحدها ، وهو أن يقول : إن دخلت الدار فلله علي نذر ، فيلزمه الكفارة وحدها تغليبا لحكم اليمين على النذر ؛ لأن كفارة اليمين معلومة ، وموجب النذر المطلق مجهول ، فلم يجز أن يقع التمييز بين معلوم ومجهول .

                                                                                                                                            [ ص: 461 ] والقسم الرابع : ما يكون مخيرا في التزامه بين الوفاء بما أوجبه على نفسه وبين كفارة يمين ، وهو ما قدمناه في مسألة الكتاب أن يعلق نذره بفعل نفسه ، ولا يعلقه بفعل الله تعالى فيه ، ليمنع نفسه بالنذر من فعل شيء ، أو يلتزم به فعل شيء ، فيصير يمينا عقدها بنذر ، فهي التي يكون فيها مخيرا بين الوفاء بنذره وبين كفارة يمين لترددها بين أصل النذر وأصل الأيمان ، فإن كان النذر بمال أو صلاة كان مخيرا بين كل واحد منهما وبين الكفارة ، وإن كان النذر بحج . قال الشافعي في كتاب الأم : فيه قولان ، فتمسك أبو حامد الإسفراييني بظاهر كلامه ، ووهم في مراده ، فخرج مذهبه فيه على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : يكون مخيرا بين الحج والكفارة كما كان مخيرا بين الصلاة والكفارة .

                                                                                                                                            والقول الثاني : يلزمه الحج ولا يجوز له العدول عنه إلى الكفارة بخلاف الصلاة والصدقة ، وتكلف الفرق بينهما بأن الحج يلزم بالدخول فيه دون غيره ، فصار أغلظ في الالتزام من غيره . وذهب جمهور أصحابنا إلى أن مذهبه لم يختلف فيه ، كما لم يختلف في غيره ، وأنه مخير بين الحج والكفارة ، كما كان مخيرا بين الصلاة والصدقة وبين الكفارة .

                                                                                                                                            وحملوا قول الشافعي : فيه قولان . على أنه يريد به للفقهاء ؛ لأن لهم في الصدقة أقاويل حكاها ، وليس لهم في الحج إلا قولان .

                                                                                                                                            إما التزامه ، وإما التخيير بينه وبين التكفير ، وإن كان مذهبه فيه التخيير .

                                                                                                                                            والقسم الخامس : ما اختلف حكمه باختلاف مراده وهو أن يقول إذا دخلت البصرة فعلي صدقة ، أو إن رأيت زيدا فعلي الحج فينظر ، فإن أراد به الترجي لدخول البصرة وللقاء زيد ، فهو معقود على فعل لله تعالى دون فعل نفسه ، فهو نذر جزاء وتبرر ، فيلزمه الوفاء بنذره وإن أراد به منع نفسه من دخول البصرة ورؤية زيد ، فهي يمين عقدها على نذر ، فيكون مخيرا فيها بين الوفاء والتكفير .

                                                                                                                                            والقسم السادس : ما اختلف حكمه لاختلاف الرواية فيه ، وهو أن يعلق نذره بتحريم ماله عليه فيقول : إن دخلت الدار فمالي علي حرام . فهو موقوف على ما حرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفسه من مارية حتى أنزل الله عليه : لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك [ التحريم : 1 ] ، ثم قال : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ التحريم : 2 ] .

                                                                                                                                            فاختلفت الرواية في الذي حرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفسه فروى الأكثرون أنه حرم مارية . فعلى هذا لا يلزم الحالف في تحريمه غير ذات الفروج من ماله شيء ، وتكون اليمين فيه لغوا .

                                                                                                                                            [ ص: 462 ] وروى طائفة أن الذي حرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العسل ، أو المغافير ، فعلى هذا يلزم الحالف بتحريم ماله عليه كفارة يمين ، كما يلزمه في تحريم ذات الفروج كفارة يمين .

                                                                                                                                            والقسم السابع : ما لا يلزمه في النذر به وفاء ولا كفارة ، سواء جعله نذر تبرر ، أو نذر يمين ، ويكون عفوا ، وهو أن يقول إن جعله نذر تبرر : لله علي الحج إن شاء زيد ، أو يقول إن جعله نذر يمين : إن دخلت الدار تصدقت بمالي إن شاء عمرو ، فلا يلزمه في الحالين أن يفي بنذره ، ولا أن يكفر عن يمينه ؛ لأن النذر ما علقه بفعل الله واليمين ما علقها بفعل نفسه ، وهذا النذر واليمين معلقان بمشيئة غيره ، فخرجا عن شرط النذر وشرط اليمين ، فلم يتعلق بهما وجوب بمشيئة لا مدخل لها في الوجوب . والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية