الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ، قال بعض أهل العلم : " إن هذا مثل ضربه الله لأهل مكة " ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس ، وإليه ذهب مجاهد وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وحكاه مالك عن الزهري - رحمهم الله - ، نقله عنهم ابن كثير وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الصفات المذكورة التي اتصفت بها هذه القرية : تتفق مع صفات أهل مكة المذكورة في القرآن ; فقوله عن هذه القرية : كانت آمنة مطمئنة [ 16 \ 112 ] ، قال نظيره عن أهل مكة ; كقوله : أولم نمكن لهم حرما آمنا الآية [ 28 \ 57 ] ، وقوله : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم الآية [ 29 \ 67 ] ، وقوله : وآمنهم من خوف [ 106 \ 4 ] ، وقوله : ومن دخله كان آمنا [ 3 \ 97 ] ، وقوله : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا الآية [ 2 \ 125 ] ، وقوله : يأتيها رزقها رغدا من كل مكان [ 16 \ 112 ] ، قال نظيره عن أهل مكة أيضا ; كقوله : يجبى إليه ثمرات كل شيء [ 28 \ 57 ] ، وقوله : لإيلاف قريش إيلافهم رحلة [ ص: 456 ] الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف [ 106 \ 1 - 4 ] ، فإن رحلة الشتاء كانت إلى اليمن ، ورحلة الصيف كانت إلى الشام ، وكانت تأتيهم من كلتا الرحلتين أموال وأرزاق ; ولذا أتبع الرحلتين بامتنانه عليهم : بأن أطعمهم من جوع . وقوله في دعوة إبراهيم : وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات الآية [ 2 \ 126 ] ، وقوله : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات الآية [ 14 \ 37 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فكفرت بأنعم الله [ 16 \ 112 ] ، ذكر نظيره عن أهل مكة في آيات كثيرة ; كقوله : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار [ 14 \ 28 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا طرفا من ذلك في الكلام على قوله تعالى : يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها الآية [ 16 \ 83 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون [ 16 \ 112 ] ، وقع نظيره قطعا لأهل مكة ; لما لجوا في الكفر والعناد ، ودعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : " اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف " ، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء ، حتى أكلوا الجيف والعلهز ( وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه ) ، وأصابهم الخوف الشديد بعد الأمن ; وذلك الخوف من جيوش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وغزواته وبعوثه وسراياه . وهذا الجوع والخوف أشار لهما القرآن على بعض التفسيرات ; فقد فسر ابن مسعود آية ( الدخان ) بما يدل على ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قال البخاري في صحيحه : باب : فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين [ 44 \ 10 ] ، " فارتقب " [ 44 \ 10 ] : فانتظر ، حدثنا عبدان ، عن أبي حمزة ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : مضى خمس : الدخان ، والروم ، والقمر ، والبطشة ، واللزام . يغشى الناس هذا عذاب أليم [ 44 \ 11 ] ، حدثنا يحيى ، حدثنا أبو معاوية . عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق قال : قال عبد الله : " إنما كان هذا ; لأن قريشا لما استعصوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم بسنين كسني يوسف ; فأصابهم قحط وجهد ، حتى أكلوا العظام . فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد . فأنزل الله تعالى : فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا [ ص: 457 ] عذاب أليم [ 44 \ 10 ، 11 ] ، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل : يا رسول الله ، استسق الله لمضر ، فإنها قد هلكت ! قال : " لمضر ! إنك لجريء ! " ، فاستسقى فسقوا . فنزلت : إنكم عائدون [ 44 \ 15 ] ، فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية . فأنزل الله عز وجل : يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون [ 44 \ 16 ] ، يعني يوم بدر .

                                                                                                                                                                                                                                      باب قوله تعالى : ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون [ 44 \ 12 ] ، حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : دخلت على عبد الله فقال : " إن من العلم أن تقول لما لا تعلم : الله أعلم ، إن الله قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ 38 \ 86 ] " ، إن قريشا لما غلبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - واستعصوا عليه ، قال : " اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف " ، فأخذتهم سنة أكلوا فيها العظام والميتة من الجهد ، حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع ‌‌‌ ، قالوا : ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون [ 44 \ 12 ] ، فقيل له : إن كشفنا عنهم عادوا ; فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا ، فانتقم الله منهم يوم بدر ; فذلك قوله : يوم تأتي السماء بدخان مبين [ 44 \ 10 ] ، إلى قوله جل ذكره : إنا منتقمون [ 44 \ 16 ] ، انتهى بلفظه من صحيح البخاري .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي تفسير ابن مسعود - رضي الله عنه - لهذه الآية الكريمة : ما يدل دلالة واضحة أن ما أذيقت هذه القرية المذكورة في ( سورة النحل ) من لباس الجوع أذيقه أهل مكة ، حتى أكلوا العظام ، وصار الرجل منهم يتخيل له مثل الدخان من شدة الجوع . وهذا التفسير من ابن مسعود - رضي الله عنه - له حكم الرفع ; لما تقرر في علم الحديث : من أن تفسير الصحابي المتعلق بسبب النزول له حكم الرفع ; كما أشار له صاحب طلعة الأنوار بقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      تفسير صاحب له تعلق بالسبب الرفع له محقق .

                                                                                                                                                                                                                                      وكما هو معروف عند أهل العلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا ذلك في ( سورة البقرة ) في الكلام : على قوله تعالى : فأتوهن من حيث أمركم الله [ 2 \ 222 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ثبت في صحيح مسلم أن الدخان من أشراط الساعة . ولا مانع من حمل الآية الكريمة على الدخانين : الدخان الذي مضى ، والدخان المستقبل جمعا بين الأدلة . وقد قدمنا أن التفسيرات المتعددة في الآية إن كان يمكن حمل الآية على جميعها فهو أولى . وقد قدمنا أن ذلك هو الذي حققه أبو العباس بن تيمية - رحمه الله - في رسالته في علوم القرآن ، بأدلته .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 458 ] وأما الخوف المذكور في آية " النحل " فقد ذكر - جل وعلا - مثله عن أهل مكة أيضا على بعض تفسيرات الآية الكريمة التي هي : ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم [ 13 \ 31 ] ، فقد جاء عن جماعة من السلف تفسير القارعة التي تصيبهم بسرية من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال صاحب الدر المنثور : أخرج الفريابي وابن جرير ، وابن مردويه من طريق عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله : تصيبهم بما صنعوا قارعة [ 13 \ 31 ] ، قال : السرايا ، وأخرج الطيالسي وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، من طريق سعيد بن جبير - رضي الله عنه - ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله : " ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة [ 13 \ 31 ] ، قال : سرية قارعة أو تحل قريبا من دارهم [ 13 \ 31 ] ، قال : أنت يا محمد حتى يأتي وعد الله ، قال : فتح مكة " ، وأخرج ابن مردويه ، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - في قوله : " تصيبهم بما صنعوا قارعة ، قال : سرية من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو تحل : يا محمد قريبا من دارهم " ، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الدلائل ، عن مجاهد - رضي الله عنه - قال : " القارعة السرايا أو تحل قريبا من دارهم ، قال : الحديبية ، حتى يأتي وعد الله ، قال : فتح مكة " ، وأخرج ابن جرير عن عكرمة - رضي الله عنه - في قوله : ولا يزال الذين كفروا الآية ، نزلت بالمدينة في سرايا النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تحل أنت يا محمد قريبا من دراهم . اه محل الغرض منه .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا التفسير المذكور في آية ( الرعد ) هذه ، والتفسير المذكور قبله في آية ( الدخان ) يدل على أن أهل مكة أبدلوا بعد سعة الرزق بالجوع ، وبعد الأمن والطمأنينة بالخوف ; كما قال في القرية المذكورة : كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون [ 16 \ 112 ] ، وقوله في القرية المذكورة : ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه . . . الآية [ 16 \ 113 ] ، لا يخفى أنه قال مثل ذلك عن قريش في آيات كثيرة ; كقوله : لقد جاءكم رسول من أنفسكم الآية [ 9 \ 128 ] ، وقوله : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم الآية [ 3 \ 164 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والآيات المصرحة بكفرهم وعنادهم كثيرة جدا ; كقوله : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم . . . الآية [ 38 \ 5 ] [ ص: 459 ] وقوله : وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها الآية [ 25 \ 41 - 42 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .

                                                                                                                                                                                                                                      فمجموع ما ذكرنا يؤيد قول من قال : إن المراد بهذه القرية المضروبة مثلا في آية ( النحل ) هذه : هي مكة . وروي عن حفصة وغيرها : " أنها المدينة ، قالت ذلك لما بلغها قتل عثمان - رضي الله عنه - " ، وقال بعض العلماء : هي قرية غير معينة ، ضربها الله مثلا للتخويف من مقابلة نعمة الأمن والاطمئنان والرزق ، بالكفر والطغيان . وقال من قال بهذا القول : إنه يدل عليه تنكير القرية في الآية الكريمة في قوله : وضرب الله مثلا قرية الآية [ 16 \ 112 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه - : وعلى كل حال ، فيجب على كل عاقل أن يعتبر بهذا المثل ، وألا يقابل نعم الله بالكفر والطغيان ; لئلا يحل به ما حل بهذه القرية المذكورة . ولكن الأمثال لا يعقلها عن الله إلا من أعطاه الله علما ; لقوله : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [ 29 \ 43 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله في هذه الآية الكريمة : قرية ، وجهان من الإعراب .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنه يدل من قوله : مثلا ، الثاني : أن ضرب مضمن معنى جعل ، وأن : قرية ، هي المفعول الأول ، و : مثلا المفعول الثاني . وإنما أخرت قرية لئلا يقع الفصل بينها وبين صفاتها المذكورة في قوله : كانت آمنة . . . ، إلخ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله في هذه الآية الكريمة : مطمئنة ، أي : لا يزعجها خوف ; لأن الطمأنينة مع الأمن ، والانزعاج والقلق مع الخوف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : رغدا ، أي : واسعا لذيذا . والأنعم قيل : جمع نعمة كشدة وأشد . أو على ترك الاعتداد بالتاء . كدرع وأدرع . أو جمع نعم كبؤس وأبؤس . كما تقدم في ( سورة الأنعام ) في الكلام على قوله : حتى يبلغ أشده الآية [ الآية \ 152 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف ، هو أن يقال : كيف أوقع الإذاقة على اللباس في قوله : فأذاقها الله لباس الجوع والخوف الآية [ 16 \ 112 ] ، وروي أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعرابي - إمام اللغة والأدب - : هل يذاق اللباس ؟ ! يريد الطعن [ ص: 460 ] في قوله تعالى : فأذاقها الله لباس الجوع الآية ، فقال له ابن الأعرابي : لا بأس أيها النسناس ! هب أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ما كان نبيا ! أما كان عربيا ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه - : والجواب عن هذا السؤال ظاهر ، وهو أنه أطلق اسم اللباس على ما أصابهم من الجوع والخوف ; لأن آثار الجوع والخوف تظهر على أبدانهم ، وتحيط بها كاللباس . ومن حيث وجدانهم ذلك اللباس المعبر به عن آثار الجوع والخوف ، أوقع عليه الإذاقة ، فلا حاجة إلى ما يذكره البيانيون من الاستعارات في هذه الآية الكريمة . وقد أوضحنا في رسالتنا التي سميناها ( منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز ) : أنه لا يجوز لأحد أن يقول إن في القرآن مجازا ، وأوضحنا ذلك بأدلته ، وبينا أن ما يسميه البيانيون مجازا أنه أسلوب من أساليب اللغة العربية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد اختلف أهل البيان في هذه الآية ، فبعضهم يقول : فيها استعارة مجردة ; يعنون أنها جيء فيها بما يلائم المستعار له . وذلك في زعمهم أنه استعار اللباس لما غشيهم من بعض الحوادث كالجوع والخوف ، بجامع اشتماله عليهم كاشتمال اللباس على اللابس على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية التحقيقية ، ثم ذكر الوصف الذي هو الإذاقة ملائما للمستعار له الذي هو الجوع والخوف ; لأن إطلاق الذوق على وجدان الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة لكثرة الاستعمال .

                                                                                                                                                                                                                                      فيقولون : ذاق البؤس والضر ، وأذاقه غيره إياهما ; فكانت الاستعارة مجردة لذكر ما يلائم المستعار له ، الذي هو المشبه في الأصل في التشبيه الذي هو أصل الاستعارة . ولو أريد ترشيح هذه الاستعارة في زعمهم لقيل : فكساها ; لأن الإتيان بما يلائم المستعار منه الذي هو المشبه به في التشبيه الذي هو أصل الاستعارة يسمى " ترشيحا " ، والكسوة تلائم اللباس ، فذكرها ترشيح للاستعارة . قالوا : وإن كانت الاستعارة المرشحة أبلغ من المجردة ، فتجريد الاستعارة في الآية أبلغ ; من حيث إنه روعي المستعار له الذي هو الخوف والجوع ، وبذكر الإذاقة المناسبة لذلك ليزداد الكلام وضوحا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم : هي استعارة مبنية على استعارة ; فإنه أولا استعار لما يظهر على أبدانهم من الاصفرار والذبول والنحول اسم اللباس ، بجامع الإحاطة بالشيء والاشتمال عليه ، فصار اسم اللباس مستعارا لآثار الجوع والخوف على أبدانهم ، ثم استعار اسم الإذاقة لما يجدونه من ألم ذلك الجوع والخوف المعبر عنه باللباس ، بجامع التعرف والاختبار في كل من الذوق بالفم ، ووجود الألم من الجوع والخوف ; وعليه ففي اللباس [ ص: 461 ] استعارة أصلية كما ذكرنا . وفي الإذاقة المستعارة لمس ألم الجوع والخوف استعارة تبعية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ألممنا هنا بطرف قليل من كلام البيانيين هنا ليفهم الناظر مرادهم ، مع أن التحقيق الذي لا شك فيه : أن كل ذلك لا فائدة فيه ، ولا طائل تحته ، وأن العرب تطلق الإذاقة على الذوق وعلى غيره من وجود الألم واللذة ، وأنها تطلق اللباس على المعروف ، وتطلقه على غيره مما فيه معنى اللباس من الاشتمال ; كقوله : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن [ 2 \ 187 ] ، وقول الأعشى :


                                                                                                                                                                                                                                      إذا ما الضجيع ثنى عطفها تثنت عليه فكانت لباسا



                                                                                                                                                                                                                                      وكلها أساليب عربية . ولا إشكال في أنه إذا أطلق اللباس على مؤثر مؤلم يحيط بالشخص إحاطة اللباس ، فلا مانع من إيقاع الإذاقة على ذلك الألم المحيط المعبر باسم اللباس . والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية