الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 57 ] فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون

الفاء مرتبة الجملة التي بعدها على مضمون ما قبلها من قوله : أومن كان ميتا فأحييناه وما ترتب عليه من التفاريع والاعتراض ، وهذا التفريع إبطال لتعللاتهم بعلة حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله وأن الله منعهم ما علقوا إيمانهم على حصوله ، فتفرع على ذلك بيان السبب المؤثر بالحقيقة إيمان المؤمن وكفر الكافر ، وهو هداية الله المؤمن ، وإضلاله الكافر ، فذلك حقيقة التأثير ، دون الأسباب الظاهرة ، فيعرف من ذلك أن أكابر المجرمين لو أوتوا ما سألوا لما آمنوا ، حتى يريد الله هدايتهم إلى الإسلام ، كما قال تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) ، وكما قال : ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله .

والهدى إنما يتعلق بالأمور النافعة : لأن حقيقته إصابة الطريق الموصل للمكان المقصود ، ومجازه رشاد العقل ، فلذلك لم يحتج إلى ذكر متعلقه هنا ؛ لظهور أنه الهدى للإسلام ، مع قرينة قوله : يشرح صدره للإسلام ، وأما قوله : فاهدوهم إلى صراط الجحيم فهو تهكم ، والضلال إنما يكون في أحوال مضرة ؛ لأن حقيقته خطأ الطريق المطلوب ، فلذلك كان مشعرا بالضر وإن لم يذكر متعلقه ، فهو هنا الاتصاف بالكفر ؛ لأن فيه إضاعة خير الإسلام ، فهو كالضلال عن المطلوب ، وإن كان الضال غير طالب للإسلام ، لكنه بحيث لو استقبل من أمره ما استدبر لطلبه .

[ ص: 58 ] والشرح حقيقته شق اللحم ، والشريحة القطعة من اللحم تشق حتى ترقق ليقع شيها . واستعمل الشرح في كلامهم مجازا في البيان والكشف ، واستعمل أيضا مجازا في انجلاء الأمر ، ويقين النفس به ، وسكون البال للأمر ، بحيث لا يتردد فيه ولا يغتم منه ، وهو أظهر التفسيرين في قوله تعالى : ألم نشرح لك صدرك .

والصدر مراد به الباطن مجازا في الفهم والعقل بعلاقة الحلول ، فمعنى يشرح صدره يجعل لنفسه وعقله استعدادا وقبولا لتحصيل الإسلام ، ويوطنه لذلك حتى يسكن إليه ويرضى به ، فلذلك يشبه بالشرح ، والحاصل للنفس يسمى انشراحا ، يقال : لم تنشرح نفسي لكذا ، وانشرحت لكذا ، وإذا حل نور التوفيق في القلب كان القلب كالمتسع ؛ لأن الأنوار توسع مناظر الأشياء ، روى الطبري وغيره ، عن ابن مسعود : أن ناسا قالوا : يا رسول الله كيف يشرح الله صدره للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يدخل فيه النور فينفسح . قالوا : وهل لذلك من علامة يعرف بها . قال : إنابة إلى دار الخلود ، والتنحي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل الفوت .



ومعنى : ومن يرد أن يضله من يرد دوام ضلاله بالكفر ، أو من يرد أن يضله عن الاهتداء إلى الإسلام ، فالمراد ضلال مستقبل ، إما بمعنى دوام الضلال الماضي ، وإما بمعنى ضلال عن قبول الإسلام ، وليس المراد أن يضله بكفره القديم ؛ لأن ذلك قد مضى وتقرر .

والضيق - بتشديد الياء بوزن فيعل - مبالغة في وصف الشيء بالضيق ، يقال ضاق ضيقا - بكسر الضاد - وضيقا - بفتحها - والأشهر كسر الضاد في المصدر والأقيس الفتح ، ويقال بتخفيف الياء بوزن فعل ، وذلك مثل ميت وميت ، وهما وإن اختلفت زنتهما ، وكانت زنة فيعل في الأصل تفيد من المبالغة في حصول الفعل ما لا تفيده زنة فعل ، فإن الاستعمال سوى [ ص: 59 ] بينهما على الأصح . والأظهر أن أصل ضيق - بالتخفيف - وصف بالمصدر ، فلذلك استويا في إفادة المبالغة بالوصف ، وقرئ بهما في هذه الآية ، فقرأها الجمهور بتشديد الياء ، وابن كثير : بتخفيفها ، وقد استعير الضيق لضد ما استعير له الشرح ، فأريد به الذي لا يستعد لقبول الإيمان ولا تسكن نفسه إليه ، بحيث يكون مضطرب البال إذا عرض عليه الإسلام ، وهذا كقوله تعالى : حصرت صدورهم وتقدم في سورة النساء .

والحرج - بكسر الراء - صفة مشبهة من قولهم : حرج الشيء حرجا ، من باب فرح ، بمعنى ضاق ضيقا شديدا ، فهو كقولهم : دنف ، وقمن ، وفرق ، وحذر ، وكذلك قرأه نافع ، وعاصم في رواية أبي بكر ، وأبو جعفر ، وأما الباقون فقرأوه بفتح الراء على صيغة المصدر ، فهو من الوصف بالمصدر للمبالغة ، فهو كقولهم : رجل دنف - بفتح النون - وفرد - بفتح الراء - .

وإتباع الضيق بالحرج لتأكيد معنى الضيق ؛ لأن في الحرج من معنى شدة الضيق ما ليس في ضيق .

والمعنى : يجعل صدره غير متسع لقبول الإسلام ، بقرينة مقابلته بقوله : يشرح صدره للإسلام .

وزاد حالة المضلل عن الإسلام تبيينا بالتمثيل ، فقال : كأنما يصعد في السماء .

قرأه الجمهور : ( يصعد ) بتشديد الصاد وتشديد العين على أنه يتفعل من الصعود ؛ أي : بتكلف الصعود ، فقلبت تاء التفعل صادا ؛ لأن التاء شبيهة بحروف الإطباق ، فلذلك تقلب طاء بعد حروف الإطباق في الافتعال قلبا مطردا ، ثم تدغم تارة في مماثلها أو مقاربها ، وقد تقلب فيما يشابه الافتعال إذا أريد التخفيف بالإدغام ، فتدغم في أحد أحرف [ ص: 60 ] الإطباق كما هنا ، فإنه أريد تخفيف أحد الحروف الثلاثة المتحركة المتوالية من " يتصعد " فسكنت التاء ثم أدغمت في الصاد إدغام المقارب للتخفيف .

وقرأه ابن كثير : ( يصعد ) بسكون الصاد وفتح العين ، مخففا . وقرأه أبو بكر ، عن عاصم : " يصاعد " بتشديد الصاد بعدها ألف وأصله يتصاعد .

وجملة كأنما يصعد في موضع الحال من ضمير ( صدره ) أو من صدره ، مثل حال المشرك حين يدعى إلى الإسلام أو حين يخلو بنفسه ، فيتأمل في دعوة الإسلام ، بحال الصاعد ، فإن الصاعد يضيق تنفسه في الصعود ، وهذا تمثيل هيئة معقولة بهيئة متخيلة ؛ لأن الصعود في السماء غير واقع .

والسماء يجوز أن يكون بمعناه المتعارف ، ويجوز أن يكون السماء أطلق على الجو الذي يعلو الأرض ، قال أبو علي الفارسي : لا يكون السماء المظلة للأرض ، ولكن كما قال سيبويه : القيدود الطويل في غير سماء أي في غير ارتفاع صعدا ، أراد أبو علي الاستظهار بكلام سيبويه على أن اسم السماء يقال للفضاء الذاهب في ارتفاع ، وليست عبارة سيبويه تفسيرا للآية .

وحرف ( في ) يجوز أن يكون بمعنى ( إلى ) ويجوز أن يكون بمعنى الظرفية : إما بمعنى كأنه بلغ السماء وأخذ يصعد في منازلها ، فتكون هيئة تخييلية ، وإما على تأويل السماء بمعنى الجو .

وجملة كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون تذييل للتي قبلها ، فلذلك فصلت .

[ ص: 61 ] والرجس : الخبث والفساد ، ويطلق على الخبث المعنوي والنفسي ، والمراد هنا خبث النفس وهو رجس الشرك ، كما قال تعالى : وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم أي : مرضا في قلوبهم زائدا على مرض قلوبهم السابق ؛ أي : أرسخت المرض في قلوبهم ، وتقدم في سورة المائدة إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فالرجس يعم سائر الخباثات النفسية الشاملة لضيق الصدر وحرجه ، وبهذا العموم كان تذييلا ، فليس خاصا بضيق الصدر حتى يكون من وضع المظهر موضع المضمر .

وقوله : كذلك نائب عن المفعول المطلق المراد به التشبيه ، والمعنى : يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون جعلا كهذا الضيق والحرج الشديد الذي جعله في صدور الذين لا يؤمنون .

و ( على ) في قوله : على الذين لا يؤمنون تفيد تمكن الرجس من الكافرين ، فالعلاوة مجاز في التمكن ، مثل : أولئك على هدى من ربهم والمراد تمكنه من قلوبهم وظهور آثاره عليهم .

وجيء بالمضارع في ( يجعل ) لإفادة التجدد في المستقبل ؛ أي : هذه سنة الله في كل من ينصرف عن الإيمان ، ويعرض عنه .

والذين لا يؤمنون موصول يومئ إلى علة الخبر ؛ أي : يجعل الله الرجس متمكنا منهم ؛ لأنهم يعرضون عن تلقيه بإنصاف ، فيجعل الله قلوبهم متزائدة بالقساوة ، والموصول يعم كل من يعرض عن الإيمان ، فيشمل المشركين المخبر عنهم ، ويشمل غيرهم من كل من يدعى إلى الإسلام فيعرض عنه ، مثل يهود المدينة والمنافقين وغيرهم .

وبهذا العموم صارت الجملة تذييلا ، وصار الإتيان بالموصول جاريا على مقتضى الظاهر ، وليس هو من الإظهار في مقام الإضمار .

التالي السابق


الخدمات العلمية