الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            بقي ههنا أن يقال الفاعل المختار لم خصص القمر دون الشمس بهذه الاختلافات ؟ فنقول لعلماء الإسلام في هذا المقام جوابان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن يقال : إن فاعلية الله تعالى لا يمكن تعليلها بغرض ومصلحة ، ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : إن من فعل فعلا لغرض فإن قدر على تحصيل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة ، فحينئذ يكون فعل تلك الواسطة عبثا ، وإن لم يقدر فهو عاجز .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : إن كل من فعل [ ص: 105 ] فعلا لغرض ، فإن كان وجود ذلك الغرض أولى له من لا وجوده فهو ناقص بذاته ، مستكمل بغيره ، وإن لم يكن أولى له لم يكن غرضا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنه لو كان فعلا معللا بغرض فذلك الغرض إن كان محدثا افتقر إحداثه إلى غرض آخر ، وإن كان قديما لزم من قدمه قدم الفعل وهو محال ، فلا جرم قالوا : كل شيء صنعه ولا علة لصنعه ، ولا يجوز تعليل أفعاله وأحكامه البتة : ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) [ الأنبياء : 23 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب الثاني : قول من قال : لا بد في أفعال الله وأحكامه من رعاية المصالح والحكم ، والقائلون بهذا المذهب سلموا أن العقول البشرية قاصرة في أكثر المواضع عن الوصول إلى أسرار حكم الله تعالى في ملكه وملكوته ، وقد دللنا على أن القوم إنما سألوا عن الحكمة في اختلاف أحوال القمر ، فالله سبحانه وتعالى ذكر وجوه الحكمة فيه وهو قوله : ( قل هي مواقيت للناس والحج ) وذكر هذا المعنى في آية أخرى وهي قوله : ( وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ) [ يونس : 5 ] ، وقال في آية ثالثة : ( فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ) [ الإسراء : 12 ] ، وتفصيل القول فيه أن تقدير الزمان بالشهور فيه منافع بعضها متصل بالدين وبعضها بالدنيا ، أما ما يتصل منها بالدين فكثيرة منها الصوم ، قال الله تعالى : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) [ البقرة : 185 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : الحج ، قال الله تعالى : ( الحج أشهر معلومات ) [ البقرة : 197 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : عدة المتوفى عنها زوجها قال الله تعالى : ( يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) [ البقرة : 234 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : النذور التي تتعلق بالأوقات ، ولفضائل الصوم في أيام لا تعلم إلا بالأهلة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما ما يتصل منها بالدنيا فهو كالمداينات والإجارات والمواعيد ولمدة الحمل والرضاع كما قال : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) [ الأحقاف : 15 ] وغيرها ، فكل ذلك مما لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الاختلاف في شكل القمر .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : لا نسلم أنا نحتاج في تقدير الأزمنة إلى حصول الشهر ، وذلك لأنه يمكن تقديرها بالسنة التي هي عبارة عن دورة الشمس وبإجرائها مثل أن يقال : كلفتكم بالطاعة الفلانية في أول السنة ، أو في سدسها ، أو نصفها ، وهكذا سائر الأجزاء ، ويمكن تقديرها بالأيام مثل أن يقال : كلفتم بالطاعة الفلانية في اليوم الأول من السنة وبعد خمسين يوما من أول السنة ، وأيضا بتقدير أن يساعد على أنه لا بد مع تقدير الزمان بالسنة وباليوم تقديره بالقمر لكن الشهر عبارة عن دورة من اجتماعه مع الشمس إلى أن يجتمع معها مرة أخرى هذا التقدير حاصل سواء حصل الاختلاف في أشكال نوره أو لم يحصل ، ألا ترى أن تقدير السنة بحركة الشمس وإن لم تحصل في نور الشمس اختلافا ، فكذا يمكن تقدير الشمس بحركة القمر ، وإن لم يحصل في نور القمر اختلاف ، وإذا لم يكن لنور القمر مخالفة بحال ولا أثر في هذا الباب لم يجز تقديره به .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن السؤال الأول : إن ما ذكرتم وإن كان ممكنا إلا أن إحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام ؛ لأن الأهلة اثنا عشر شهرا ، والأيام كثيرة ، ومن المعلوم أن تقسيم جملة الزمان إلى السنين ، ثم تقسيم كل سنة إلى الشهور ، ثم تقسيم الشهور إلى الأيام ، ثم تقسيم كل يوم إلى الساعات ، ثم تقسيم كل ساعة إلى الأنفاس أقرب إلى الضبط وأبعد عن الخبط ، ولهذا قال سبحانه : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر ) [ ص: 106 ] ( شهرا ) [ التوبة : 36 ] وهذا كما أن المصنف الذي يراعي حسن الترتيب يقسم تصنيفه إلى الكتب ، ثم كل كتاب إلى الأبواب ، ثم كل باب إلى الفصول ثم كل فصل إلى المسائل فكذا ههنا الجواب عنه .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما السؤال الثاني : فجوابه ما ذكرتم ، إلا أنه متى كان القمر مختلف الشكل ، كان معرفة أوائل الشهور وأنصافها وأواخرها أسهل مما إذا لم يكن كذلك ، وأخبر جل جلاله أنه دبر الأهلة هذا التدبير العجيب لمنافع عباده في قوام دنياهم مع ما يستدلون بهذه الأحوال المختلفة على وحدانية الله سبحانه وتعالى وكمال قدرته ، كما قال تعالى : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) [ آل عمران : 190 ] ، وقال تعالى : ( تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ) [ الفرقان : 61 ] ، وأيضا لو لم يقع في جرم القمر هذا الاختلاف لتأكدت شبه الفلاسفة في قولهم : إن الأجرام الفلكية لا يمكن تطرق التغيير إلى أحوالها ، فهو سبحانه وتعالى بحكمته القاهرة أبقى الشمس على حالة واحدة ، وأظهر الاختلاف في أحوال القمر ليظهر للعاقل أن بقاء الشمس على أحوالها ليس إلا بإبقاء الله ، وتغير القمر في أشكاله ليس إلا بتغيير الله فيصير الكل بهذا الطريق شاهدا على افتقارها إلى مدبر حكيم قادر قاهر ، كما قال : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) [ الإسراء : 44 ] . إذا عرفت هذه الجملة فنقول : إنه لما ظهر أن الاختلاف في أحوال القمر معونة عظيمة في تعيين الأوقات من الجهات التي ذكرناها نبه تعالى بقوله : ( قل هي مواقيت للناس والحج ) على جميع هذه المنافع ، لأن تعديد جميع هذه الأمور يقضي إلى الإطناب ، والاقتصار على البعض دون البعض ترجيح من غير مرجح فلم يبق إلا الاقتصار على كونه ميقاتا فكان هذا الاقتصار دليلا على الفصاحة العظيمة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( والحج ) ففيه إضمار تقديره وللحج ، كقوله تعالى : ( وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم ) [ البقرة : 233 ] أي لأولادكم ، واعلم أنا بينا أن الأهلة مواقيت لكثير من العبادات فإفراد الحج بالذكر لا بد فيه من فائدة ولا يمكن أن يقال تلك الفائدة هي أن مواقيت الحج لا تعرف إلا بالأهلة ، قال تعالى : ( الحج أشهر معلومات ) [ البقرة : 197 ] ، وذلك لأن وقت الصوم لا يعرف إلا بالأهلة ، قال تعالى : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) [ البقرة : 185 ] ، وقال عليه السلام : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " وأحسن الوجوه فيه ما ذكره القفال رحمه الله : وهو أن إفراد الحج بالذكر إنما كان لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه وأنه لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية