الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال - رحمه الله ) - : وإذا دفع إلى رجل أرضا له مزارعة على أن يزرعها سنته هذه ببذره وعمله بالنصف على أن يكري العامل أنهارها فالمزارعة فاسدة ; لأن رب الأرض مؤاجر أرضه بنصف الخارج وكري الأنهار على المؤاجر ، كما لو أجرها بدراهم ، وهذا ; لأن بكري الأنهار يأتيها الماء ويتمكن المستأجر من الانتفاع بها ، وما لم يتمكن المستأجر من الانتفاع لا يستوجب الأجر ، فإذا ثبت أن كري الأنهار على المستأجر ، قلنا : إذا شرط على المستأجر فكأنه شرط لنفسه مع نصف الخارج مؤنة كري الأنهار بمقابلة منفعة الأرض ، وذلك مفسد للعقد ثم منفعة كري الأنهار تبقى بعد مضي مدة المزارعة ، وشرط ما تبقى منفعته بعد مضي المدة على المزارع مفسد للعقد ، فإن عمل على هذا ، وكرى الأنهار كان الخارج للعامل ; لأن البذر من قبله ، ولصاحب الأرض أجر مثل أرضه ; لأنه استوفى منفعة أرضه بعقد فاسد ، وللعامل على صاحب الأرض أجر مثل عمله في كري الأنهار ; لأنه استوفى منفعة عمله بعقد فاسد فيتقاصان ويترادان الفضل ، ولو لم يكن كري الأنهار مشروطا على العامل في العقد ، ولكن العامل كرى الأنهار بنفسه ، فالمزارعة جائزة ، ولا أجر له في كريها ; لأنه تبرع بإيفاء ما ليس بمستحق عليه ، فهو بمنزلة ما لو حوطها ، وكذلك إصلاح المسناة ; فإن ذلك على رب الأرض بمنزلة كري الأنهار ، فإن شرط على المزارع في العقد فسد به العقد ، وإن باشره من غير شرط فالعقد جائز ، ولا أجر له فيما عمل ، ولو كان البذر من رب الأرض ، وقد شرط على العامل لنفسه شيئا وراء ما يقتضيه المزارعة ومنفعة هذا تبقى بعد مضي مدة المزارعة ، فيفسد به العقد ، ويكون الخارج كله لصاحب الأرض ، وللعامل أجر مثل عمله في جميع ذلك ; لأن صاحب الأرض استوفى جميع عمله بعقد فاسد ، ولو اشترطا على رب الأرض كري الأنهار ، وإصلاح المسناة حتى يأتيه الشرب كانت المزارعة جائزة على شرطهما سواء كان البذر من قبل العامل ، أو من قبل رب الأرض [ ص: 81 ] لأن هذا العمل على رب الأرض بدون الشرط فالشرط لا يزيده إلا وكادة ، وليس شيء منها على العامل ، فاشتراطهما عليه اشتراط عوض مجهول ، وهو خلاف ما يقتضيه العقد ، فيفسد به العقد ، ونظيره ما لو استأجر دارا بدراهم مسماة على أن يطين رب الدار سطوحها ، وعلى أن يصلح مساربها لمسيل الماء جاز ذلك ; لأن هذا على رب الدار بدون الشرط ; فإنه إذا لم يفعله رب الدار فوكفت البيوت ، وجاء من ذلك ضرر بين كان للمستأجر أن يخرج من الدار فاشتراطه عليه لا يزيده إلا وكادة ، ولو اشترط رب الدار ذلك على المستأجر كانت الإجارة فاسدة ; لأن اشتراطه هذه الأعمال عليه ، كاشتراط مؤنتها لنفسه بمقابلة منفعة الدار ، وهي مجهولة ، ولو اشترط على رب الأرض كرابها أو الكراب والثنيان ، فإن كان البذر من العامل فالمزارعة فاسدة ; لأن العقد في جانب الأرض يلزم بنفسه ، وموجبه التخلية بين الأرض والمزارع ، واشتراط الكراب والثنيان عليه يفوت موجب العقد ، فيفسد به العقد ثم الكراب والثنيان من عمل الزراعة ، واشتراط بعض عمل الزراعة على رب الأرض مفسد للعقد ، كاشتراط الحفظ ، ثم الخارج كله لصاحب البذر ، ولصاحب الأرض أجر مثل أرضه وعمله في الكراب والثنيان ، ولم يرد به أن عمله في الكراب والثنيان يتقوم على العامل وإنما مراده أنه يغرم أجر مثل الأرض مكروبة أو مكروبة مسناة ; لأنه استوفى منفعتها في وقت إلقاء البذر فيها ، وهي بهذه الصفة ، وإن كان البذر من رب الأرض فالمزارعة جائزة ; لأن لزوم العقد من جهة صاحب البذر لا يكون قبل إلقاء البذر في الأرض ، والكراب والثنيان يسبق ذلك ، فاشتراطه على رب الأرض لا يضر ; لأن الكراب في الثنيان بالبقر يكون ، واشتراط البقر على رب الأرض جائز إذا كان البذر من قبله ، ولا يجوز إن كان البذر من قبل المزارع ، فكذلك اشتراط الكراب والثنيان ، ولو اشترط على أحدهما بعينه أن يسرقنها أو يعذرها ، والبذر من قبل العامل فالمزارعة فاسدة ; لأنه إن شرط ذلك على العامل فقد شرط عليه ما تبقى منفعته في الأرض بعد مضي مدة المزارعة ، وشرط عليه إتلاف عين مال لا يقتضيه عقد المزارعة ، وذلك مفسد للعقد ، وإن شرط على رب الأرض فذلك بمنزلة شرط الكراب والثنيان عليه ; لأن هذا من عمل الزراعة ، فاشتراطه على رب الأرض يكون مفسدا للعقد ، ويكون الخارج كله للعامل ، ولصاحب الأرض أجر مثل أرضه ، وأجر مثل عمله فيما عمل من ذلك وقيمة سرقينه إن كان ذلك من قبله ، وإن كان من قبل العامل لم يكن له على رب الأرض من قبل ذلك شيء ، وإن كان فيه منفعة لرب الأرض فيما بقي [ ص: 82 ] لأن العامل إنما عمل لنفسه ، وما بقي لرب الأرض أثر عمله ، وإن لم يتقوم أصل عمله على رب الأرض ، فكذلك أثر عمله ، وإن كان البذر من رب الأرض ، فإن كان اشترط عليه ذلك فالمزارعة جائزة بمنزلة اشتراط الكراب والثنيان ، وهذا ، لأن إلقاء السرقين والعذرة في الأرض يكون قبل الزراعة ، وقبل الكراب أيضا ، وأن لزوم العقد في جانب صاحب البذر عند إلقاء البذر في الأرض ، فكأنه استأجره للعمل بنصف الخارج بعد ما فرغ من إلقاء العذرة والسرقين ، وإن شرطاه على العامل فالمزارعة فاسدة ; لأنهما شرطا على العامل ما تبقى منفعته بعد مضي مدة المزارعة ، وللعامل أجر مثله فيما عمل ، وقيمة ما طرح من السرقين ; لأن صاحب الأرض استوفى ذلك كله بعقد فاسد ، فهو نظير من استأجر صباغا إجارة فاسدة ليصبغ ثوبه بصبغ من عنده ، ففعل ذلك فإنه يكون له أجر مثل عمله ، وقيمة صبغه ولو اشترط على العامل أن لا يعذرها ، ولا يسرقنها ، والبذر منه أو من صاحب الأرض فالمزارعة جائزة ، والشرط باطل ; لأن هذا شرط لا طالب به ، فإن في إلقاء العذرة والسرقين في الأرض منفعة للأرض ، وليس فيه مضرة ، والمطالبة بالوفاء بالشرط يكون لتوفر المنفعة أو لدفع الضرر ، فإذا انعدم ذلك في هذا الشرط عرفنا أنه لا مطالب به فلا يفسد العقد به ، واستدل في الكتاب بحديث ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا أجر أرضه اشترط على صاحبها أن لا يدخلها كلبا ، ولا يعذرها ، وقد بينا أنه إنما كان يشترط ذلك لمعنى التقذر ، ولو كان هذا من الشروط التي تفسد الإجارة ما اشترطه ابن عمر رضي الله عنه على من استأجر منه أرأيت لو اشترط عليه أن لا يدخلها كلبا ، كما اشترطه ابن عمر رضي الله عنه كان هذا مفسدا للمزارعة ، وليس يفسدها هذا ، ويتخير المزارع إن شاء أدخلها كلبا ، وإن شاء لم يدخلها ، فكذلك إذا شرط عليه أن لا يعذرها ، ولا يسرقنها يتخير المزارع في ذلك ، فلو اشترط العامل على رب الأرض دولابا أو دالية بأداتها ، وذلك بعينه عند رب الأرض أو لم يكن عنده ، فاشتراه ، فأعطاه إياه ، فعمل على هذا ، والبذر من العامل فالمزارعة فاسدة ، وإن شرط ذلك لرب الأرض على العامل جاز ، وكان ذلك على العامل ، وإن لم يشترط رب الأرض ; لأنه مما يسقي به الأرض ، والسقي على العامل ، فاشتراطه ما يتأتى به السقي عليه يكون مقررا لمقتضى العقد ، وليس السقي على رب الأرض ، فاشتراط ما يتأتى به السقي على رب الأرض بمنزلة اشتراط السقي عليه ، وذلك مفسد للعقد ، وكذلك الدواب التي يسقي عليها بالدولاب إن اشترطها على رب الأرض فالمزارعة فاسدة ، [ ص: 83 ] وإن اشترطها على العامل جاز ; لأن اشتراط الدولاب للسقي ، كاشتراط البقر للكراب ، وقد بينا أن اشتراط البقر على رب الأرض مفسد للعقد إذا كان البذر من قبل العامل ، واشتراطها على العامل لا يفسد العقد ، فكذلك اشتراط الدواب للسقي ، وكذلك لو اشترط الدولاب والدواب على العامل ، وشرط علف الدواب كذا مختوما شعيرا وسطا كل شهر وكذا من القت وكذا من التبن بشيء معروف من ذلك على رب الأرض فالمزارعة فاسدة ; لأن ما يشترط على رب الأرض لعلف دواب المزارع يكون مشروطا للمزارع ، واشتراط شيء له من غير ما تخرجه الأرض يكون مفسدا للمزارعة ; فإنها شركة في الخارج ، فلا يجوز أن يستحق بها مال آخر ، فإن حصل الخارج فهو كله لصاحب البذر ، ولصاحب الأرض أجر مثل أرضه ومثل ما أخذ من المزارع من الشعير والقت والتبن ; لأنه استوفى ذلك بعقد فاسد ، ولو كان اشتراط ذلك كله على العامل جاز ; لأن علف دوابه عليه بغير شرط ، فالشرط لا يزيده إلا وكادة ، ولو كان البذر من رب الأرض فاشتراط ذلك كله على صاحب العمل جاز بمنزلة اشتراط البقر للكراب عليه ، وكذلك إن اشترط على رب الأرض ; لأنه لو اشترط عليه البقر للكراب في هذه الحالة يجوز ، فكذلك إذا شرط عليه الدولاب والدواب للسقي ، وهذا ; لأن المزارع أجيره ، فإنما استأجره ; ليقيم العمل بأداة المستأجر ، وذلك صحيح ، وإذا اشترطا الدواب والدولاب على رب الأرض وعلف الدواب شيئا معروفا على المزارع فسدت المزارعة ; لأنه شرط على المزارع علف دواب غيره ، وذلك بمنزلة اشتراط رب الأرض على المزارع طعام غلامه ، وذلك مفسد للمزارعة سواء سمى طعاما معروفا أو لم يسم ; لأن ذلك بمنزلة الاشتراط منه لنفسه ، وكذلك لو اشترطا الدواب والدولاب على المزارع وعلف الدواب على رب الأرض ولو اشترطا الدابة وعلفها على أحدهما ، والدولاب على الآخر جاز ; لأن علف الدابة مشروط على صاحب الدابة ، وهو عليه بغير شرط ثم في هذا الفصل اشتراط الدواب والدولاب على أحدهما صحيح أيهما كان ، فكذلك اشتراط كل واحد منهما على أحدهما بعينه يكون صحيحا . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية