الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5114 [ ص: 197 ] 31 - باب: الأدم

                                                                                                                                                                                                                              5430 - حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة أنه سمع القاسم بن محمد يقول: كان في بريرة ثلاث سنن، أرادت عائشة أن تشتريها فتعتقها، فقال أهلها: ولنا الولاء، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لو شئت شرطتيه لهم، فإنما الولاء لمن أعتق". قال: وأعتقت فخيرت في أن تقر تحت زوجها أو تفارقه، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما بيت عائشة وعلى النار برمة تفور، فدعا بالغداء فأتي بخبز وأدم من أدم البيت فقال: "ألم أر لحما؟". قالوا: بلى يا رسول الله، ولكنه لحم تصدق به على بريرة، فأهدته لنا. فقال: "هو صدقة عليها، وهدية لنا". [انظر: 456 - مسلم: 1504 - فتح:9 \ 556].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث عائشة - رضي الله عنها - في قصة بريرة وفيها: فأتي بخبز وأدم من أدم البيت. وفيه -كما قال الطبري- البيان: أنه - عليه السلام - كان يؤثر في طعامه اللحم على غيره إذا وجد إليه سبيلا; وذلك أنه لما رأى اللحم في منزله قال: "ألم أر لحما؟! "، فقالوا: إنه تصدق به على بريرة، فدل هذا على إيثاره - عليه السلام - للحم إذا وجد إليه سبيلا; لأنه قال ذلك بعد أن قرب إليه.

                                                                                                                                                                                                                              ولما حدثناه سعيد بن عنبسة الرازي، ثنا (أبو عبيد) الحداد، ثنا أبو هلال، عن [ابن] بريدة، عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيد الإدام [ ص: 198 ] في الدنيا والآخرة اللحم" فإن قيل: فقد قال عمر بن الخطاب لرجل رآه يكثر الاختلاف إلى القصابين: اتقوا هذه المجازر على أموالكم; فإن لها ضراوة كضراوة الخمر، وعلاه بالدرة.

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحسن أن عمر - رضي الله عنه - دخل على ابنه عبد الله فرأى عنده لحما طريا فقال: ما هذا؟ قال: اشتهيناه. فقال: وكلما اشتهيت اللحم أكلته، كفى بالمرء سرفا أن يأكل كل ما اشتهى .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو أمامة (لأني لأبغض) أهل البيت أن يكونوا لحميين قيل: وما اللحميون؟ قال: يكون لهم قوت شهر فيأكلونه في اللحم في أيام. وقد قال يزيد بن أبي حبيب: (البطينة) : طعام الأنبياء.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن عون: ما رأيت على خوان محمد لحما يشتريه إلا أن يهدى له، وكان يأكل السمن والكافخ ويقول: سأصبر على هذا حتى يأذن الله بالفرج. قال الطبري: وهذه أخبار صحاح ليس فيها خلاف بشيء مما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 199 ] قلت : كراهة عمر فإنما كان منه; خوفا عليه الإجحاف بماله; لكثرة شرائه له إذ كان قليلا عندهم، وأراد أن يأخذ بحظه من ترك شهوات الدنيا وقمع نفسه، يدل عليه قوله: كفى. إلى آخره.

                                                                                                                                                                                                                              وأما أبو أمامة فقد أخبر بالعلة التي لها كره أن يكون أهل [البيت] لحميين، وهو تبذيرهم وتدميرهم. وأما ابن سيرين فإنما ترك شراءه; لأنه لزمه الدين وفلس من أجله فلم يكن عنده لها قضاء، والحق عليه ما فعل من التقصير في عيشه وترك التوسع في مطعمه; حتى يؤدي ما عليه لغرمائه، وكان إذا وجده من غير الشراء لم يؤثر عليه غيره.

                                                                                                                                                                                                                              وأما قول يزيد بن أبي حبيب فمعناه -والله أعلم- نحو معنى فعل عمر في تركه ذلك; إشفاقا أن يكون بأكله ممن يدخل في جملة من أذهب طيباته في حياته الدنيا. مع أن التأسي بالشارع أولى بنا من التأسي بغيره من الأنبياء، وكان لا يؤثر على اللحم شيئا ما وجد إليه السبيل.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق حديث جابر - رضي الله عنه - قال: ذبحت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عناقا وأصلحتها، فلما وضعتها بين يديه، نظر إلي وقال: "كأنك قد علمت حبنا اللحم" .

                                                                                                                                                                                                                              وبمثل ما قلناه كان السلف يعملون، روى الأعمش، عن أبي عباد، عن أبي عمرو الشيباني قال: رأى عبد الله مع رجل دراهم فقال: ما تصنع [ ص: 200 ] بها؟ قال: أشتري بها سمنا. قال: أعط امرأتك نصفها تحت فراشها ثم اشتر كل يوم بدرهم لحما. وكان للحسن كل يوم لحم بنصف درهم، وقال ابن عون: إذا فاتني اللحم فما أدري مما أئتدم .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قول القاسم بن محمد: كان في بريرة ثلاث سنن. اعترض الداودي فقال: تشتمل على نحو ثلاثين. قلت: وصلت إلى نحو الأربعمائة، وأفردت بالتأليف.

                                                                                                                                                                                                                              والجواب: إن هذه الثلاث مهمات.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله - عليه السلام -: "لو شئت شرطت لهم، فإنما الولاء لمن أعتق". وفي أكثر الأحاديث: "اشترطي لهم الولاء" .

                                                                                                                                                                                                                              واحتيج إلى الجواب إما بأن اللام بمعنى: على; لقوله: وإن أسأتم فلها [الإسراء: 7] أو أن الشرط لم يقارن بل سبق، أو هشاما انفرد به، فلعله نقله على المعنى، أو أنه أولا أمر به كما كانوا يفعلونه في الجاهلية ثم منعها عنه، أو أنه خاص بتلك الواقعة. وقال الأصيلي: معناه: لا يلزمه; لأن الولاء لمن أعتق، يؤيده رواية البخاري "ودعيهم يشترطون ما شاءوه" .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقولها: (فخيرت بين أن تقر تحت زوجها، أو تفارقه) يصح أن [ ص: 201 ] يكون أصله من وقر، فالراء مخففة، قال الأحمر في قوله تعالى: وقرن في بيوتكن [الأحزاب: 33] ليس من الوقار، وإنما هو من الجلوس ويقال: وقرت أقر; فعلى هذا المحذوف من (يقر) فاء الفعل، وهي الواو، ويصح أن تكون القاف مفتوحة من قولهم: قررت بالمكان أقر، قيل: هو معنى الآية المذكورة، أصله: واقررن، حذفت الراء الأولى للتضعيف، وألقيت حركتها على القاف، فاستغني عن ألف الوصل لتحرك القاف. ويجوز كسر القاف وتشديد الراء من قريت، ويؤول ذلك على قراءة (وقرن في بيوتكن) بكسر القاف، وأصله: واقررن حذفت الراء الأولى وألقيت حركتها على القاف. ولغة أهل الحجاز: قررت بالمكان، بكسر الراء وبالفتح أيضا، ذكره أجمع ابن التين .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية