الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر مسير أمير المؤمنين علي ، رضي الله عنه ، إلى الخوارج

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لما عزم علي ومن معه من الجيش على البداءة بالخوارج ، نادى مناديه في الناس بالرحيل ، فعبر الجسر فصلى ركعتين عنده ، ثم سلك على دير عبد الرحمن ، ثم دير أبي موسى ، ثم على شاطئ الفرات ، فلقيه هنالك منجم ، فأشار عليه بوقت من النهار يسير فيه ولا يسير في غيره ، فإنه إن سار في غيره يخشى عليه ، فخالفه علي ، وسار على خلاف ما قال المنجم ، وقال : نسير ثقة بالله ، وتوكلا عليه ، وتكذيبا لقول المنجم . فأظفره الله ، عز وجل ، وقال علي : إنما أردت أن أبين للناس خطأه وخشيت أن يقول الناس : إنما ظفر لكونه [ ص: 586 ] وافقه فيما أشار به ، فيشركوا بالله غيره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وسلك علي ناحية الأنبار ، وبعث بين يديه قيس بن سعد ، وأمره أن يأتي المدائن ، وأن يلقاه بنائبها سعد بن مسعود - وهو أخو عبد الله بن مسعود الثقفي - في جيش المدائن ، فاجتمع الناس هنالك على علي ، وبعث إلى الخوارج أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم لنقتلهم بهم ، ثم إنا تاركوكم وذاهبون عنكم إلى الشام ، ثم لعل الله أن يقبل بقلوبكم ، ويردكم إلى خير مما أنتم عليه ، فبعثوا إليه يقولون : كلنا قتل إخوانكم ، ونحن مستحلون دماءهم ودماءكم . فتقدم إليهم قيس بن سعد بن عبادة ، فوعظهم فيما هم مرتكبوه من الأمر العظيم ، والخطب الجسيم فلم ينفع ذلك فيهم ، وكذلك فعل أبو أيوب الأنصاري ; أنبهم ووبخهم ، فلم ينجع فيهم ، وتقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إليهم ، فوعظهم وخوفهم وحذرهم وأنذرهم وتهددهم وتوعدهم ، وقال : إنكم أنكرتم علي أمرا أنتم دعوتموني إليه وأبيتم إلا إياه ، فنهيتكم عنه فلم تقبلوا ، وها أنا وأنتم فارجعوا إلى ما خرجتم منه ، ولا تركبوا محارم الله فإنكم قد سولت لكم أنفسكم أمرا تقتلون عليه المسلمين ، والله لو قتلتم عليه دجاجة لكان عظيما عند الله ، فكيف بدماء المسلمين ؟ !

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 587 ] فلم يكن لهم جواب إلا أن تبادروا فيما بينهم أن لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيئوا للقاء الرب ، عز وجل ، الرواح الرواح إلى الجنة ! وتقدموا فاصطفوا للقتال ، وتأهبوا للنزال ، فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي السنبسي ، وعلى الميسرة شريح بن أوفى ، وعلى خيالتهم حمزة بن سنان ، وعلى الرجالة حرقوص بن زهير السعدي ، ووقفوا مقاتلين لعلي وأصحابه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وجعل علي على ميمنته حجر بن عدي وعلى الميسرة شبث بن ربعي أو معقل بن قيس الرياحي ، وعلى خيالته أبا أيوب الأنصاري ، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري ، وعلى أهل المدينة - وكانوا سبعمائة - قيس بن سعد بن عبادة ، وأمر علي أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية أمان للخوارج ، ويقول لهم : من جاء إلى هذه الراية فهو آمن ، ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن ، إنه لا حاجة لنا في دمائكم ، إلا في من قتل إخواننا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فانصرف منهم طوائف كثيرون ، وكانوا في أربعة آلاف فلم يبق منهم إلا ألف - أو أقل - مع عبد الله بن وهب الراسبي ، فزحفوا إلى علي فقدم علي بين يديه الخيل ، وقدم منهم الرماة ، وصف الرجالة وراء الخيالة ، وقال لأصحابه : كفوا عنهم حتى يبدأوكم . وأقبلت الخوارج وهم يقولون : لا حكم إلا لله ، الرواح الرواح إلى الجنة ! فحملوا على الخيالة الذين قدمهم علي ، ففرقوهم حتى [ ص: 588 ] أخذت طائفة‌‌‌‌‌‌ من الخيالة إلى الميمنة ، وأخرى إلى الميسرة ، فاستقبلتهم الرماة بالنبل ، فرموا وجوههم ، وعطفت عليهم الخيالة من الميمنة والميسرة ، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف ، فأناموا الخوارج ، فصاروا صرعى تحت سنابك الخيول ، وقتل أمراؤهم ; عبد الله بن وهب ، وحرقوص بن زهير ، وشريح بن أوفى ، وعبد الله بن شجرة السلمي ، قبحهم الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو أيوب : وطعنت رجلا من الخوارج بالرمح ، فأنفذته من ظهره ، وقلت له : أبشر يا عدو الله بالنار ، فقال : ستعلم أينا أولى بها صليا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : ولم يقتل من أصحاب علي إلا سبعة نفر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وجعل علي يمشي بين القتلى منهم ويقول : بؤسا لكم ، لقد ضركم من غركم . فقالوا : يا أمير المؤمنين ومن غرهم ؟ قال : الشيطان ، وأنفس بالسوء أمارة ، غرتهم بالأماني ، وزينت لهم المعاصي ، ونبأتهم أنهم ظاهرون . ثم أمر بالجرحى من بينهم فإذا هم أربعمائة ، فسلمهم إلى قبائلهم ليداووهم ، وقسم ما وجد من سلاح ومتاع لهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الهيثم بن عدي في كتاب " الخوارج " : حدثنا محمد بن قيس الأسدي ومنصور بن دينار ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن النزال بن سبرة ، أن عليا لم يخمس ما أصاب من الخوارج يوم النهروان ، ولكن رده إلى [ ص: 589 ] أهليهم كله ، حتى كان آخر ذلك مرجل أتي به فرده .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو مخنف : حدثني عبد الملك بن أبي حرة ، أن عليا خرج في طلب ذى الثدية ، ومعه سليمان بن ثمامة الحنفي أبو جبرة ، والريان بن صبرة بن هوذة ، فوجده الريان في حفرة على جانب النهر في أربعين أو خمسين قتيلا ، قال : فلما استخرج له نظر إلى عضده ، فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة ، له حلمة كحلمة الثدي ، عليها شعرات سود ، فإذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الأخرى ، ثم تترك فتعود إلى منكبه كثدي المرأة . فلما رآه قال علي : أما والله لولا أن تتكلوا على غير العمل لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه ، صلى الله عليه وسلم ، لمن قاتلهم مستبصرا في قتالهم عارفا للحق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 590 ] وقال الهيثم بن عدي في كتابه في الخوارج : وحدثني محمد بن ربيعة الأحمسي ، عن نافع بن مسلمة الأحمسي ، قال : كان ذو الثدية رجلا من عرينة من بجيلة ، وكان أسود شديد السواد ، له ريح منتنة معروف في العسكر ، يرافقنا على ذلك وينازلنا وننازله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحدثني أبو إسماعيل الحنفي ، عن الريان بن صبرة الحنفي قال : شهدنا النهروان مع علي ، فلما وجد المخدج سجد سجدة طويلة شكرا لله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحدثني سفيان الثوري ، عن محمد بن قيس الهمداني ، عن رجل من قومه يكنى أبا موسى ، أن عليا لما وجد المخدج سجد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحدثني يونس بن أبي إسحاق ، حدثني إسماعيل بن سعيد بن عروة ، عن حبة العرني قال : لما قتل علي أهل النهروان ، جعل الناس يقولون : الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي قطع دابرهم . فقال علي : كلا والله إنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فإذا خرجوا من بين الشرايين فقلما يقاتلون أحدا إلا [ ص: 591 ] ألفوا أن يظهروا عليه . قال : وكان عبد الله بن وهب الراسبي قد قحلت مواضع السجود منه من شدة اجتهاده وكثرة سجوده ، وكان يقال له : ذو المنقبات .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى الهيثم عن بعض الخوارج أنه قال : ما كان عبد الله بن وهب من بغضته لعلي يسميه إلا الجاحد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الهيثم بن عدي : ثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن حكيم بن جابر قال : سئل علي عن أهل النهروان أمشركون هم ؟ فقال : من الشرك فروا . قيل : أفمنافقون هم ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا . فقيل : فما هم يا أمير المؤمنين ؟ قال : إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا . هذا ما أورده ابن جرير ، وغيره في هذا المقام .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية