الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ قال رحمه الله ] : وإذا دفع المريض أرضه إلى رجل مزارعة يزرعها ببذره وعمله على أن الخارج بينهما على كذا فزرعها فأخرجت زرعا كثيرا ، وأجر مثل الأرض أكثر من نصيب صاحبه أضعافا ، وعليه دين يحيط بماله ، وأجر الأرض ثم مات ، والمزارع أجنبي أو أحد ورثته ، ونقصان الأرض أكثر من أجر مثلها - فالخارج بينهما على ما اشترطا ولا شيء للعامل من الأجر والنقصان ; لأن تصرف المريض حصل فيما لا حق فيه لغرمائه ولا لورثته وهي منفعة الأرض التي توجد في حياته ، فإن حق الورثة إنما يتعلق بما يتصور بقاؤه بعد موته ، وحق الغرماء إنما يتعلق بما يمكن إيفاء الدين منه [ ألا ترى ] أنه لو أعار المريض من صاحب البذر [ ص: 129 ] أرضه ولم يشترط عليه عوضا بمقابلة منافعها لم يعتبر ذلك من ثلثه ، وكان ذلك منه في مرضه وفي صحته سواء ، فكذلك إذا دفعها مزارعة بجزء يسير من الخارج وفي تصرفه محض منفعة للغرماء والورثة وهو سلامة مقدار المشروط بمقابلة الأرض من الزرع لهم ، ولولا عقد المزارعة ما سلم لهم ذلك ، وإذا ثبت صحة تصرفه وكان عمل العامل في الأرض بإذن صحيح فلا يلزمه شيء من نقصان الأرض . ولو كان البذر من صاحب الأرض وسمى للعامل تسعة أعشار الخارج ولا دين على المريض ، ولا مال غير الأرض والطعام فإنه ينظر إلى الزرع يوم خرج من الأرض وصار له قيمة كم يساوي تسعة أعشاره ؟ فإن كان مثل أجر الأرض أو أقل منه فلما قام عليه وسقاه حتى استحصد صار أكثر من أجر مثله وأكثر من ثلث مال رب الأرض فللمزارع تسعة أعشار الخارج ، فإن كانت قيمة تسعة أعشاره حين خرج أكثر من أجر مثل المزارع فقام عليه وسقاه حتى استحصد صار أكثر من أجر مثله وأكثر من ثلث ما ترك الميت فأبى الورثة أن يجيزوا - أخذ الزارع من حصته من الخارج أجر مثله وثلث ما ترك وصية له إن لم يكن من ورثته ، والباقي لورثة صاحب الأرض ; لأن صاحب الأرض استأجر العامل بما جعل له من الخارج ، وإنما يصير المزارع بإيجابه شريكا في الخارج حين ثبت الخارج ، فإذا كانت قيمة ما نبت مثل أجر مثله أو أقل لم تمكن في تصرفه محاباة فيقدر . ثم ملك المزارع في نصيبه بعقد صحيح ، ثم الزيادة بعد ذلك إنما حدثت على ملك صحيح له فلا يعتبر ذلك من ثلث مال الميت ، فأما إذا كانت قيمته حين نبت أكثر من أجر مثله فالزيادة على مقدار أجر المثل محاباة له والمحاباة لا تسلم إلا من الثلث بعد الدين ، فبقي الثابت كله موقوفا على حق المريض فيثبت حقه في الزيادة الحادثة فيه فلا يسلم للمزارع من جميع ذلك بعد ما استحصد الزرع إلا مقدار أجر مثله ، وما زاد على ذلك إلى تمام المشروط له يكون وصية فيعتبر من ثلث ماله ; فيحتاج هنا إلى معرفة شيئين : أحدهما أن عمل المزارع وإن لم يكن مالا متقوما فبالعقد يتقوم بمقدار أجر المثل ، ولا وصية في ذلك القدر من المشروط له ، كما لو استأجر المريض أجيرا لعمل آخر له بل أولى ; لأن هناك استأجره بما كان حاصلا له لا بعمله ، وهنا استأجره بمال يحصل أو يزداد بعمله . والثاني أنه يعتبر قيمة حصته حين يصير للزرع قيمة لا حين نبت ; لأنه يكون مملكا منه نصيبه بعوض ، والتمليك إنما يجوز في الزرع بعد ما يصير متقوما كالتمليك بالبيع ، وهو وإن صار شريكا فيما نبت ولكنه يحتاج إلى قيمة نصيبه ليقابل ذلك بأجر مثله ، وما ليس بمتقوم [ ص: 130 ] لا يمكن معرفة قيمته فيعتبر أول أحوال إمكان التقوم فيه ، كأحد الشريكين في الجنين إذا أعتق نصيبه وهو موسر يضمن لصاحبه قيمة نصيبه معتبرا بما بعد الانفصال . قال : وإنما هذا مثل رجل استأجر في مرضه رجلا ليخدمه سنته بجارية له بعينها لا مال له غيرها فدفعها إليه ، وخدمه الرجل السنة كلها وولدت الجارية وزادت في بدنها ، ثم صارت تساوي أكثر من أجر مثل الرجل ، ثم مات المريض ; فإن كانت قيمتها يوم وقعت الإجارة وقبضها الأجير مثل أجر مثله أو أقل كانت له بزيادتها لأنه لا محاباة فيها ولا وصية ، وإنما اعتبرت قيمتها وقت القبض لأن الأجرة قبل استيفاء المنفعة لا تملك بنفس العقد وإنما تملك بالقبض ، وإن كانت قيمتها يومئذ أكثر من أجر مثله فإنه يعطى الأجر منها مقدار أجر مثله وثلث ما ترك الميت بعد ذلك من الجارية وولدها وصية له ويرد قيمة البقية على الورثة لأنه يمكن فيها معنى الوصية بطريق المحاباة فلا تكون سالمة للأجير ، وتبقى موقوفة على حق المريض فيثبت حقه في الزيادة متصلة كانت أو منفصلة ، فلا يسلم للأجير منها إلا مقدار أجر مثله وثلث التركة بعد ذلك منها ومن ولدها بطريق الوصية ، وفيما زاد على ذلك يلزمه رده ، إلا أنه تعذر الرد لمكان الزيادة الحاصلة في يده بعد ما يملكها فرد قيمة الزيادة . فإن قيل : إنما يملكها بالقبض بحكم سبب فاسد فينبغي أن يرد عينها مع الزيادة . قلنا : لا كذلك بل كان السبب صحيحا يومئذ لأن تصرف المريض فيما يحتمل النقض بعد نفوذه يكون محكوما بصحته ، ثم ينقض بعد موته ما يتعذر تنفيذه ، والمقصود من هذا النقض دفع الضرر عن الورثة وذلك يحصل برد قيمة الزيادة عليهم ، ولو لم يكن في رد العين إلا ضرر التبعيض على الأجير لكان ذلك كافيا في تحول حقهم إلى القيمة . وإن كان المزارع وارث المريض كان الجواب كذلك ، إلا أنه لا وصية له لقوله عليه الصلاة والسلام : { لا وصية لوارث } . فإن كانت قيمة نصيبه أجر مثل المزارع أو أقل حين نبت الزرع وصارت له قيمة - فجميع المشروط سالم له ، وإن كان أكثر من أجر مثله فإنما يسلم له من الخارج مقدار أجر مثله حين استحصد الزرع ، والباقي كله ميراث عن الميت . وإن كان المزارع أجنبيا وعلى الميت دين يحيط بماله كان المزارع أسوة الغرماء فإنما يثبت له من الحصة في الزرع على ما تقدم ذكره ، حتى إذا لم يكن من قيمة حصته حين صار متقوما زيادة على أجر مثله فقد صح تسمية حصته له في الكل ، والزيادة الحادثة بعد ذلك تكون زيادة على ملكه ، إلا أن عين ذلك لا تسلم له لأن المريض لا يملك تخصيص بعض الغرماء بقضاء الدين [ ص: 131 ] إلا بائعا اشترى منه ما تكون ماليته مثل ما أعطاه من الثمن لأنه يدخل في ملكه ما يقوم مقام ما يخرجه في تعلق حق الغرماء به وذلك لا يوجد به ; فلهذا لا يختص العامل به ، ولكن لما ثبت حقه بسبب لا محاباة فيه ولا تهمة كان هو أسوة الغرماء في تركته ، وإن كانت حصته أكثر من أجر مثل عمله فإنما يضرب مع الغرماء في الخارج بمقدار أجر مثل عمله حين استحصد الزرع ; لأن ما زاد على ذلك كان وصية له ولا وصية مع الدين ، وكذلك مسألة الجارية هو أسوة الغرماء فيما ثبت له فيها على الوجه الذي بينا من الفرق ، بينما إذا كانت قيمتها حين قبضها مثل أجر مثله في خدمته أو أكثر من ذلك ، ولا تشبه المزارعة في هذا المضاربة ; فإن المريض لو دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة على أن للمضارب تسعة أعشار الربح وربح عشرة آلاف ثم مات المريض وأجر مثل المضارب في عمله مائة درهم فإن الورثة يأخذون رأس المال والباقي بينهم وبين المضارب على الشرط ، ولا ينظر في هذا إلى أجر مثله لأن هناك رأس المال قد رجع إلى ورثته ، والربح بمال لم يكن لرب المال ولا يتعلق به حق ورثته وغرمائه . [ ألا ترى ] أنه لو لم يشترط شيئا من الربح لنفسه بأن أقرض المال منه كان صحيحا ؟ ففي اشتراطه بعض الربح لنفسه منفعة لغرمائه وورثته .

والبذر في المزارعة ليس يرجع إلى رب الأرض وإنما يكون جميع الخارج بينهما ; فيكون تصرف المريض فيما تعلق به حق غرمائه وورثته ، ولو كان يرجع إلى صاحب البذر رأس ماله ويكون ما بقي بينهما لكنا نجوز ذلك أيضا كما نجوزه في المضاربة . فإن قيل : ينبغي أن ينظر إلى قيمة البذر ويقابل ذلك بأجر مثله ولا ينظر إلى قيمة الخارج . قلنا : إنما ينظر إلى قيمة ما يوجبه للمزارع بمقابلة عمله ، وهو لا يوجب له شيئا من البذر إنما يوجب له حصته من الخارج ; فلهذا ينظر إلى قيمة ما يوجبه له وإلى أجر مثله .

التالي السابق


الخدمات العلمية