الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
صفة الخصماء ورد المظالم .

قد عرفت هول الميزان وخطره وأن الأعين شاخصة إلى لسان الميزان فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية ومن خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية واعلم أنه لا ينجو من خطر الميزان إلا من حاسب في الدنيا نفسه ووزن فيها بميزان الشرع أعماله وأقواله وخطراته ولحظاته كما قال عمر رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وإنما حسابه لنفسه أن يتوب عن كل معصية قبل الموت توبة نصوحا ويتدارك ما فرط من تقصيره في فرائض الله تعالى ويرد المظالم حبة بعد حبة ويستحل كل من تعرض له بلسانه ويده وسوء ظنه بقلبه ويطيب قلوبهم حتى يموت ولم يبق عليه مظلمة ولا فريضة .

فهذا يدخل الجنة بغير حساب وإن مات قبل رد المظالم أحاط به خصماؤه ، فهذا يأخذ بيده وهذا يقبض على ناصيته وهذا يتعلق بلببه هذا يقول : ظلمتني ، وهذا يقول شتمتني ، وهذا يقول : استهزأت بي ، وهذا يقول ذكرتني في : الغيبة بما يسوءني ، وهذا يقول : جاورتني فأسأت جواري وهذا يقول عاملتني فغششتني ، وهذا يقول بايعتني فغبنتني وأخفيت عني عيب سلعتك ، وهذا يقول : كذبت في سعر متاعك ، وهذا يقول رأيتني : محتاجا وكنت غنيا فما أطعمتني ، وهذا يقول : وجدتني مظلوما وكنت قادرا على دفع الظلم عني فداهنت الظالم وما راعيتني ، فبينا أنت كذلك وقد أنشب الخصماء فيك مخالبهم وأحكموا في تلابيبك أيديهم وأنت مبهوت متحير من كثرتهم حتى لم يبق في عمرك أحد عاملته على درهم أو جالسته في مجلس إلا وقد استحق عليك مظلمة بغيبة أو خيانة أو نظر بعين استحقار ، وقد ضعفت عن مقاومتهم ومددت عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعله يخلصك من أيديهم ؛ إذ قرع سمعك نداء الجبار جل جلاله : اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم فعند ذلك ينخلع قلبك من الهيبة وتوقن نفسك بالبوار وتتذكر ما أنذرك الله تعالى على لسان رسوله حيث قال : ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء وأنذر الناس

فما أشد فرحك اليوم بتمضمضك بأعراض الناس وتناولك أموالهم ، وما أشد حسراتك في ذلك اليوم إذا وقف ربك على بساط العدل وشوفهت بخطاب السياسة وأنت مفلس فقير عاجز مهين لا تقدر على أن ترد حقا أو تظهر عذرا فعند ذلك تؤخذ حسناتك التي تعبت فيها عمرك وتنقل إلى خصمائك عوضا عن حقوقهم .

قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تدرون من المفلس ؟ قلنا : المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا دينار ولا متاع قال : المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي ، وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن ، فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار فانظر إلى مصيبتك في مثل هذا اليوم ؛ إذ ليس يسلم لك حسنة من آفات الرياء ومكايد الشيطان ، فإن سلمت حسنة واحدة في كل مدة طويلة ابتدرها خصماؤك وأخذوها ، ولعلك لو حاسبت نفسك وأنت مواظب على صيام النهار وقيام الليل لعلمت أنه لا ينقضي عنك يوم إلا ويجري على لسانك من غيبة المسلمين ما يستوفي جميع حسناتك ، فكيف ببقية السيئات من أكل الحرام والشبهات والتقصير في الطاعات ؟! وكيف ترجو الخلاص من المظالم في يوم يقتص فيه للجماء من القرناء فقد روى أبو ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين ينتطحان ، فقال : يا أبا ذر أتدري ، فيم ينتطحان ؟ قلت : لا ، قال : ولكن الله يدري وسيقضي بينهما يوم القيامة .

التالي السابق


* (صفة الخصماء ورد المظالم) *

(اعلم أنك قد عرفت هول الميزان وخطره وأن الأعين شاخصة إلى لسان الميزان) وهو عذبته (فمن ثقلت موازينه) بالحسنات (فهو في عيشة راضية) أي: عيش ذات رضا أي: مرضية؛ هي الجنة، قاله قتادة، رواه عبد بن حميد وابن جرير (ومن خفت موازينه) عنها بأن لم تكن له حسنة يعبأ بها أو ترجحت سيئاته على حسناته (فأمه هاوية) هي النار مأواهم وأمهم ومصيرهم، قاله قتادة، وقال عكرمة : أم رأسه هاوية في جهنم، رواه ابن أبي حاتم، وروي عن الوالبي مثله، وقال أبو صالح : يهوون في النار على رءوسهم. رواه ابن جرير، وعند الميزان ملك ينادي: ألا إن فلان بن فلان ثقلت موازينه، ألا إن فلان بن فلان خفت موازينه. رواه ابن أبي شيبة عن عبد الله بن العيزار كما تقدم، ومما يؤيد قول من قال: إن الهاوية من أسماء النار قوله ( وما أدراك ما هيه نار حامية ) أي: ذات حمي .

(واعلم أنه لا ينجو من خطر الميزان) يوم القيامة (إلا من حاسب في الدنيا نفسه ووزن فيها بميزان الشرع أعماله وأقواله وخطراته ولحظاته كما قال عمر -رضي الله عنه-: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا قبل أن توزنوا) رواه كثير بن هشام عن جعفر بن برقان أن عمر كتب إلى عامل له: حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فمن فعل رجع إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغله أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة، فتذكر ما توعظ به لكي ما تنتهي عما تنتهي عنه وتكون عند الموعظة إلى النهي.

(وإنما حسابه لنفسه أن يتوب عن كل معصية قبل الموت توبة نصوحا) خالصة لا يخالجها العزم على العود (ويتدارك ما فرط من تقصيره في فرائض الله تعالى ويرد المظالم) إلى أهلها (حبة بعد حبة ويستحل كل من تعرض له بلسانه) بالشتم والغيبة (ويده) بالضرب والإشارة (وسوء ظنه بقلبه ويطيب قلوبهم) على قدر الإمكان (حتى يموت ولم تبق عليه مظلمة) لأحد (ولا فريضة) لله تعالى (فهذا يدخل الجنة بغير حساب) فهو من القسم الثاني من الأقسام الثلاثة المذكورة في أول المحاسبة .

(وإن مات قبل رد المظالم أحاط به خصماؤه، فهذا يأخذ بيده وهذا يقبض على ناصيته وهذا يتعلق بلببه) أي: بعنقه (وهذا يقول: ظلمتني، وهذا) يقول: (شتمتني، وهذا يقول: استهزأت بي، وهذا يقول: ذكرتني في الغيبة بما يسوءني، وهذا يقول: جاورتني فأسأت جواري، وهذا يقول: عاملتني فغششتني، وهذا يقول: بايعتني فغبنتني وأخفيت عني عيب سلعتك، وهذا يقول: كذبت في سعر متاعك، وهذا يقول: رأيتني محتاجا وكنت غنيا فما أطعمتني، وهذا يقول: وجدتني مظلوما وكنت قادرا على دفع الظلم عني فداهنت الظالم وما راعيتني، فبينا أنت كذلك قد أنشب الخصماء فيك مخالبهم وأحكموا في تلابيبك أيديهم وأنت مبهوت متحير من كثرتهم حتى لم يبق في عمرك أحد عاملته على درهم أو جالسته في مجلس إلا وقد استحق عليك مظلمة بغيبة أو خيانة أو نظر بعين استحقار، وقد ضعفت عن مقاومتهم ومددت عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعله يخلصك من أيديهم؛ إذ قرع سمعك نداء الجبار جل جلاله: اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم فعند ذلك ينخلع قلبك من الهيبة وتوقن نفسك بالبوار) أي: الهلاك .

(وتتذكر ما أنذرك الله تعالى) به (على لسان رسوله) -صلى الله عليه وسلم- (حيث قال: ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ) قال ميمون بن مهران: هي تعزية المظلوم ووعيد الظالم، رواه ابن جرير ( إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين ) مديمي النظر، رواه ابن جرير عن مجاهد، وقال قتادة مسرعين (مقنعي رءوسهم) [ ص: 476 ] أي رافعين (لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء) تمور في أفواههم إلى حلوقهم ليس لها مكان يستقر فيه، رواه ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير، وقال مرة: أي متخوفة لا تغني شيئا، رواه ابن جرير، وروى ابن أبي شيبة عن أبي صالح قال: يحشر الناس هكذا، ووضع رأسه بيمينه على شماله عند صدره .

(فما أشد فرحك اليوم بتمضمضك أعراض الناس وتناولك أموالهم، وما أشد حسراتك في ذلك اليوم إذا وقف ربك على بساط العدل وشوفهت بخطاب السياسة وأنت مفلس فقير عاجز مهين) أي: ذليل (لا تقدر على أن ترد حقا أو تظهر عذرا فعند ذلك تأخذ حسناتك التي تعبت فيها عمرك وتنقل إلى خصمائك عوضا عن حقوقهم، قال أبو هريرة ) -رضي الله عنه- (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: هل تدرون من المفلس؟ قلنا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع، قال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، فيأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، وإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار ) رواه أحمد ومسلم والترمذي من حديث أبي هريرة، وقد تقدم .

(فانظر إلى معصيتك في مثل هذا اليوم؛ إذ ليس تسلم لك حسنة من آفات الرياء ومكايد الشيطان، فإن سلمت حسنة واحدة في كل مدة طويلة ابتدرها خصماؤك وأخذوها، ولعلك لو حاسبت نفسك وأنت مواظب على صيام النهار وقيام الليل لعلمت أنه لا ينقضي عليك يوم إلا ويجري على لسانك من غيبة المسلمين ما يستوفي جميع حسناتك، فكيف ببقية السيئات من أكل الحرام والشبهات والتقصير في الطاعات؟! وكيف ترجو الخلاص من المظالم في يوم يقتص فيه للجماء) هي الشاة التي لا قرن لها (من القرناء) هي التي لها قرون (فقد روى أبو ذر الغفاري ) - رضي الله عنه- ( أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى شاتين ينتطحان، فقال: يا أبا ذر، أتدري فيم ينتطحان؟ قلت: لا، قال: ولكن الله يدري وسيقضي بينهما يوم القيامة ) .

قال العراقي : رواه أحمد من رواية أشياخ لم يسموا عن أبي ذر . اهـ. قلت: ورواه كذلك الطيالسي في مسنده، وروى أحمد بسند حسن من حديث أبي هريرة : ليختصم يوم القيامة كل شيء حتى الشاتان فيما انتطحا، ومن حديث أبي سعيد الخدري : والذي نفسي بيده ليختصم يوم القيامة كل شيء حتى الشاتان فيما انتطحتا .




الخدمات العلمية