الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ) استثنى الله تعالى من المحاربين المفسدين في الأرض ، الذين حكم عليهم بأشد الجزاء في الدنيا وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة ، من يتوبون منهم قبل القدرة عليهم ، وتمكن أولي الأمر من عقابهم ; فإن توبتهم ، وهم في قوتهم ومنعتهم ، جديرة بأن تكون توبة نصوحا ، منشؤها العلم بقبح عملهم ، والعزم على عدم العودة إليه ، لا الخوف من عقاب الدنيا ، وهب أنه الخوف من عقاب الدنيا ، أليسوا قد تركوا الإفساد ومحاربة شرع الله ورسوله ، وصاروا كسائر الناس ؟ بلى ! وإذا لا يجمع لهم بين أشد عقاب الشرع في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة ; ولذلك يبين الله تعالى أنهم يصيرون بهذه التوبة أهلا لمغفرته ورحمته ، فقال : ( فاعلموا أن الله غفور رحيم ) أي فاعلموا أنه يغفر لهم ما سلف ، ويرحمهم برفع العقاب عنهم ، وهل الذي يرتفع عنهم عقاب الآخرة فقط كما قالوا في توبة السارق ؟ ( وسيأتي حده وحكمه بعد ثلاث آيات ) أم يرتفع عنهم [ ص: 302 ] حق الله كله من عقاب الدنيا والآخرة ، ولا يبقى عليهم إلا حقوق العباد ؟ وإذا يكون لمن سلب التائب أموالهم أيام إفساده أن يطالبوه بها ، ولمن قتل منهم أحدا أن يطالبوه بدمه ، ولهم الخيار كغيرهم بين القصاص والدية والعفو ، أم تسقط عنهم حقوق الله كلها ، وحقوق العباد كلها أيضا ؟ احتمالات آخرها أضعفها ، وأوسطها أقواها ، وقد ثبت عن الصحابة إسقاط الحد عمن تاب ، ولكن لم يرد أن أحدا تقاضى التائب حقا ، ولم يسمع له الإمام . وإذا جاز إسقاط الحد مطلقا عن التائب فلا يجوز إسقاط المال عنه مطلقا ؛ بل يتجه أن يقال : إن توبته لا تصح إلا إذا أعاد الأموال المسلوبة إلى أربابها ، فإذا رأى أولو الأمر إسقاط حق مالي عن المفسدين للمصلحة العامة وجب أن يضمنوه من بيت المال .

                          وقد اختلف علماء السلف في هؤلاء التائبين ، فقيل إنهم المحاربون المفسدون من الكفار إذا تابوا عن الكفر والحرب والفساد ودخلوا في الإسلام قبل القدرة عليهم ، فهم الذين يسقط عنهم كل حق كان قبل الإسلام ; لأنه يجب ما قبله مطلقا ، رواه ابن جرير عن ابن عباس وعكرمة والحسن البصري ومجاهد وقتادة .

                          وقيل : إنها في المحاربين من المسلمين ، وروى ابن جرير أن حارثة بن بدر كان محاربا في عهد أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ، فطلب من الحسن بن علي ، ثم من ابن جعفر ، عليهم الرضوان ، أن يستأمن له عليا ، فأبيا عليه ، فأتى سعيد بن قيس فقبله . ( قال الراوي ) : فلما صلى علي الغداة أتاه سعيد بن قيس ، فقال : يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ؟ فقرأ علي الآيتين ، فقال سعيد : وإن كان حارثة بن بدر ؟ قال : وإن كان حارثة بن بدر ، قال : فهذا حارثة بن بدر جاء تائبا ، فهو آمن ؟ قال : نعم . قال : فجاء به فبايعه ، وقبل ذلك منه ، وكتب له أمانا ، ولكن ليس في الرواية ما يدل على إسقاط حقوق الناس . وقد اشترط بعضهم في التائب أن يستأمن الإمام فيؤمنه ، كما فعل حارثة . وقال بعضهم : لا يشترط ذلك ، بل يجب على الإمام أن يقبل كل تائب ، ورووا في ذلك واقعة محارب جاء أبا موسى تائبا ، وكان عامل عثمان على الكوفة ، فقبل منه ، وواقعة علي الأسدي الذي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم ، ثم سمع رجلا يقرأ : ( ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) ( 39 : 53 ) الآية ، فاستعادها ، فأعادها القارئ ، فغمد سيفه ، وجاء المدينة تائبا بعد أن عجزت الحكومة والناس عنه ، فأخذ بيده أبو هريرة وجاء به إلى والي المدينة مروان بن الحكم ، وقال له : لا سبيل لكم عليه ، ولا قتل ، فترك من ذلك كله .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية