الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                الحديث الثاني الذي خرجه في هذا الباب :

                                45 45 - حديث طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب - أن رجلا من [ ص: 158 ] اليهود قال له : يا أمير المؤمنين ، آية في كتابكم تقرءونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ! قال : أي آية ؟ قال : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فقال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ! نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو واقف بعرفة يوم الجمعة .

                                التالي السابق


                                وقد خرجه ابن جرير الطبري في تفسيره من وجه آخر عن عمر ، وزاد فيه أنه قال : وكلاهما بحمد الله لنا عيد .

                                وخرج الترمذي ، عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وعنده يهودي ، فقال : لو أنزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدا ! فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين : في يوم جمعة ، ويوم عرفة .

                                فهذا قد يؤخذ من أن الأعياد لا تكون بالرأي والاختراع كما يفعله أهل الكتابين من قبلنا ، إنما تكون بالشرع والاتباع .

                                فهذه الآية لما تضمنت إكمال الدين وإتمام النعمة أنزلها الله في يوم شرعه عيدا لهذه الأمة من وجهين :

                                أحدهما : أنه يوم عيد الأسبوع ، وهو يوم الجمعة .

                                والثاني : أنه يوم عيد أهل الموسم وهو يوم مجمعهم الأكبر وموقفهم الأعظم ، وقد قيل : إنه يوم الحج الأكبر .

                                وقد جاء تسميته عيدا في حديث مرفوع خرجه أهل السنن من حديث [ ص: 159 ] عقبة بن عامر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق - عيدنا أهل الإسلام ، وهي أيام أكل وشرب " .

                                وقد أشكل وجهه على كثير من العلماء ; لأنه يدل على أن يوم عرفة يوم عيد لا يصام ، كما روي ذلك عن بعض المتقدمين .

                                وحمله بعضهم على أهل الموقف ، وهو الأصح لأنه اليوم الذي فيه أعظم مجامعهم ومواقفهم ، بخلاف أهل الأمصار فإن اجتماعهم يوم النحر . وأما أيام التشريق فيشارك أهل الأمصار أهل الموسم فيها ; لأنها أيام ضحاياهم وأكلهم من نسكهم . هذا قول جمهور العلماء .

                                وقال عطاء : إنما هي أعياد لأهل الموسم ، فلا ينهى أهل الأمصار عن صيامها .

                                وقول الجمهور أصح .

                                ولكن الأيام التي تحدث فيها حوادث من نعم الله على عباده لو صامها بعض الناس شكرا من غير اتخاذها عيدا كان حسنا ; استدلالا بصيام النبي - صلى الله عليه وسلم - عاشوراء ; لما أخبره اليهود بصيام موسى له شكرا ، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن صيام يوم الاثنين ، قال : " ذلك يوم ولدت فيه ، وأنزل علي فيه " .

                                [ ص: 160 ] فأما الأعياد التي يجتمع عليها الناس فلا يتجاوز بها ما شرعه الله لرسوله ، وشرعه الرسول لأمته .

                                والأعياد هي مواسم الفرح والسرور ، وإنما شرع الله لهذه الأمة الفرح والسرور بتمام نعمته وكمال رحمته ، كما قال تعالى : قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا فشرع لهم عيدين في سنة ، وعيدا في كل أسبوع ; فأما عيدا السنة :

                                فأحدهما : تمام صيامهم الذي افترضه عليهم كل عام ، فإذا أتموا صيامهم أعتقهم من النار ، فشرع لهم عيدا بعد إكمال صيامهم ، وجعله يوم الجوائز يرجعون فيه من خروجهم إلى صلاتهم وصدقتهم بالمغفرة ، وتكون صدقة الفطر وصلاة العيد شكرا لذلك .

                                والعيد الثاني : أكبر العيدين عند تمام حجهم بإدراك حجهم بالوقوف بعرفة وهو يوم العتق من النار ، ولا يحصل العتق من النار والمغفرة للذنوب والأوزار في يوم من أيام السنة أكثر منه ، فجعل الله عقب ذلك عيدا ، بل هو العيد الأكبر ، فيكمل أهل الموسم فيه مناسكهم ، ويقضون فيه تفثهم ، ويوفون نذورهم ، ويطوفون بالبيت العتيق .

                                ويشاركهم أهل الأمصار في هذا العيد ; فإنهم يشاركونهم في يوم عرفة في العتق والمغفرة وإن لم يشاركوهم في الوقوف بعرفة ; لأن الحج فريضة العمر لا فريضة كل عام ، بخلاف الصيام .

                                ويكون شكر عيد أهل الأمصار الصلاة والنحر ، والنحر أفضل من الصدقة التي في يوم الفطر ; ولهذا أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يشكر نعمته عليه بإعطائه الكوثر [ ص: 161 ] بالصلاة له والنحر ، كما شرع ذلك لإبراهيم خليله عليه السلام عند أمره بذبح ولده وافتدائه بذبح عظيم .

                                وأما عيد الأسبوع فهو يوم الجمعة ، وهو متعلق بإكمال فريضة الصلاة ; فإن الله فرض على عباده المسلمين الصلاة كل يوم وليلة خمس مرات . فإذا كملت أيام الأسبوع التي تدور الدنيا عليها ، وأكملوا صلاتهم فيها - شرع لهم يوم إكمالها ، وهو اليوم الذي انتهى فيه الخلق ، وفيه خلق آدم وأدخل الجنة ، عيدا يجتمعون فيه على صلاة الجمعة .

                                وشرع لهم الخطبة تذكيرا بنعم الله عليهم ، وحثا لهم على شكرها . وجعل شهود الجمعة بأدائها كفارة لذنوب الجمعة كلها وزيادة ثلاثة أيام .

                                وقد روي أن يوم الجمعة أفضل من يوم الفطر ويوم النحر ، خرجه الإمام أحمد في " مسنده " ، وقاله مجاهد وغيره .

                                وروي أنه حج المساكين ، وروي عن علي أنه يوم نسك المسلمين .

                                [ ص: 162 ] وقال ابن المسيب : الجمعة أحب إلي من حج التطوع .

                                وجعل الله التبكير إلى الجمعة كالهدي ; فالمبكر في أول ساعة كالمهدي بدنة ، ثم كالمهدي بقرة ، ثم كالمهدي كبشا ، ثم كالمهدي دجاجة ، ثم كالمهدي بيضة .

                                ويوم الجمعة يوم المزيد في الجنة ، الذي يزور أهل الجنة فيه ربهم ، ويتجلى لهم في قدر صلاة الجمعة .

                                وكذلك روي في يوم العيدين أن أهل الجنة يزورون ربهم فيها ، وأنه يتجلى فيها لأهل الجنة عموما ، يشارك الرجال فيها النساء .

                                فهذه الأيام أعياد للمؤمنين في الدنيا وفي الآخرة عموما .

                                وأما خواص المؤمنين فكل يوم لهم عيد كما قال بعض العارفين .

                                وروي عن الحرم : كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد .

                                ولهذا روي أن خواص أهل الجنة يزورون ربهم ، وينظرون إليه كل يوم مرتين بكرة وعشيا . وقد خرجه الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا وموقوفا .

                                ولهذا المعنى - والله أعلم - لما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرؤية في حديث جرير بن عبد الله البجلي أمر عقب ذلك بالمحافظة على الصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ; فإن هذين الوقتين وقت لرؤية خواص أهل الجنة ربهم ، فمن [ ص: 163 ] حافظ على هاتين الصلاتين على مواقيتهما وأدائهما وخشوعهما وحضور القلب فيهما - رجي له أن يكون ممن ينظر إلى الله في الجنة في وقتهما .

                                فتبين بهذا أن الأعياد تتعلق بإكمال أركان الإسلام ; فالأعياد الثلاثة المجتمع عليها تتعلق بإكمال الصلاة والصيام والحج ، فأما الزكاة فليس لها زمان معين تكمل فيه ، وأما الشهادتان فإكمالهما هو الاجتهاد في الصدق فيهما ، وتحقيقهما والقيام بحقوقهما .

                                وخواص المؤمنين يجتهدون على ذلك كل يوم ووقت ; فلهذا كانت أيامهم كلها أعياد ، ولذلك كانت أعيادهم في الجنة مستمرة ، والله أعلم .



                                الخدمات العلمية