الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بسم الله الرحمن الرحيم ( باب الأمر حقيقة في القول المخصوص ) لما كان مما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع : السند ، والمتن . وتقدم [ ص: 319 ] الكلام على السند أخذ في الكلام على المتن ، ولما كان المتن منه أمر ونهي وعام وخاص ومطلق ومقيد ومجمل ومبين وظاهر ومؤول ومنطوق ومفهوم . بدأ من ذلك بالأمر ثم بالنهي ، لانقسام الكلام إليهما بالذات ، لا باعتبار الدلالة والمدلول .

فالأمر لا يعني به مسماه ، كما هو المتعارف في الأخبار عن الألفاظ : أن يلفظ بها والمراد مسمياتها ، بل لفظة الأمر هو أمر ، كما يقال : زيد مبتدأ ، وضرب فعل ماض ، وفي حرف جر . ولهذا قلنا : إنه حقيقة في القول المخصوص . وهذا بالاتفاق ( و ) هو أيضا ( نوع من ) أنواع ( الكلام ) لأن الكلام هو الألفاظ الدالة بالإسناد على إفادة معانيها . فنوع منه يكون من الأسماء فقط ، ونوع من الفعل الماضي وفاعله ، ونوع من الفعل المضارع وفاعله ، ونوع من فعل الأمر وفاعله ثم الأمر قد يطلق ويراد به الفعل ولكن على سبيل المجاز عند الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأصحابه وأكثر العلماء . وإلى ذلك أشير بقوله ( ومجاز في الفعل ) ومنه قوله تعالى { وشاورهم في الأمر } أي في الفعل ونحوه . وقوله تعالى { أتعجبين من أمر الله } وقوله تعالى { حتى إذا جاء أمرنا } ويطلق أيضا ويراد به الشأن . ومنه قوله تعالى { وما أمر فرعون برشيد } أي : شأنه ، والمعنى الذي هو مباشر له . وقال ابن قاضي الجبل كقوله تعالى { إنما قولنا لشيء إذا أردناه } ويطلق أيضا ويراد به الصفة ، نحو قول الشاعر

لأمر ما يسود من يسود

أي بصفة من صفات الكمال ، ويطلق ويراد به الشيء كقولهم : تحرك الجسم لأمر ، أي لشيء . ويطلق أيضا على الطريقة بمعنى الشأن وعلى القصد والمقصود وقيل إن الأمر مشترك بين الفعل والقول بالاشتراك اللفظي لأنه أطلق عليهما وقيل متواط فهو للقدر المشترك بينهما من باب التواطؤ دفعا للاشتراك والمجاز وقال القاضي في " الكفاية " إن الأمر مشترك بين القول والشأن والطريقة ونحوه . قال الشيخ عبد الحليم والد الشيخ تقي الدين : " هذا هو الصحيح لمن أنصف " . انتهى .

واستدل للمذهب الصحيح - وهو كون الأمر مجازا في غير القول المخصوص - بأن القول يسبق إلى الفهم عند الإطلاق ، ولو كان متواطئا لم يفهم منه الأخص ; لأن الأعم لا يدل على الأخص ، وبأنه لو كان حقيقة في الفعل لزم الاشتراك ، والاطراد ; لأنه من لوازم الحقيقة ، ولا يقال للآكل آمر ، ولا يشتق له منه أمر ، ولا مانع ولاتحد [ ص: 320 ] جمعاهما ، ولوصف بكونه مطاعا ومخالفا ، ولما صح نفيه ( و ) أما ( حده ) أي حد الأمر في الاصطلاح فهو ( اقتضاء ) مستعل ممن دونه فعلا بقول ( أو استدعاء مستعل ) أي على جهة الاستعلاء ( ممن ) أي من شخص ( دونه فعلا ) معمول استدعاء ( بقول ) متعلق باستدعاء . فعلى هذا يعتبر الاستعلاء . وهو قول أبي الخطاب والموفق وأبي محمد الجوزي والطوفي وابن مفلح وابن قاضي الجبل وابن برهان في الأوسط والفخر الرازي والآمدي وغيرهم وأبي الحسين من المعتزلة . وصححه ابن الحاجب وغيره . قال في شرح التحرير : واعتبر أكثر أصحابنا ، منهم القاضي وابن عقيل وابن البناء والفخر إسماعيل والمجد بن تيمية وابن حمدان وغيرهم ، ونسبه ابن عقيل في الواضح إلى المحققين ، وأبو الطيب الطبري وأبو إسحاق الشيرازي والمعتزلة : العلو . فأمر المساوي لغيره يسمى عندهم التماسا ، والأدون سؤالا . واعتبر الاستعلاء والعلو معا ابن القشيري والقاضي عبد الوهاب المالكي . وقال بعض الشافعية : لا تشترط الرتبة . فتلخص في المسألة أربعة أقوال : الاستعلاء ، والعلو معا . والثاني : عكسه . والثالث : اعتبار الاستعلاء فقط . والرابع : اعتبار العلو فقط ( وتعتبر إرادة النطق بالصيغة ) قال ابن برهان : بلا خلاف ، حتى لا يرد نحو : نائم وساه . قال ابن عقيل وغيره : اتفقنا أن إرادة النطق معتبرة . وإلا فليس طلبا واقتضاء واستدعاء . واختلف الناس : هل هو كلام ؟ فنفاه المحققون ، فقوم لقيام الكلام بالنفس ، وقوم لعدم إرادته . وعندنا لأنه مدفوع إليه . كخروج حرف من غلبة عطاس ونحوه ( وتدل ) الصيغة ( بمجردها عليه ) أي على الأمر ( لغة ) أي عند أهل اللغة . قال ابن قاضي الجبل : هو قول الأئمة الأربعة والأوزاعي وجماعة من أهل العلم .

وبه يقول البلخي من المعتزلة . وقال ابن عقيل : الصيغة الأمر . فمنع أن يقال للأمر صيغة أو أن يقال : هي دالة عليه ، بل الصيغة نفسها هي الأمر ، والشيء لا يدل على نفسه ، وإنما يصح عند المعتزلة : الأمر الإرادة ، والأشعرية : الأمر معنى في النفس وكذا قال أبو المعالي الجويني : صيغة الأمر . كقولك : ذات الشيء ونفسه ، [ ص: 321 ] وقال بعض أصحابنا : قولهم للأمر صيغة صحيح ، لأن الأمر اللفظ والمعنى ، فاللفظ دل على التركيب ، وليس هو عين المدلول ، ولأن اللفظ دل على صيغته التي هي الأمر به ، كما يقال : يدل على كونه أمرا ، ولم يقل على الأمر . وقال القاضي : الأمر يدل على طلب الفعل واستدعائه ، فجعله مدلول الأمر لا عين الأمر . و ( لا ) يشترط في الأمر ( إرادة الفعل ) عند جماهير العلماء ، خلافا للمعتزلة ; لأن الله سبحانه وتعالى أمر إبراهيم بذبح ابنه ، ولم يرده منه ، وأمر إبليس بالسجود ولم يرده منه ، ولو أراده لوقع ; لأنه فعال لما يريد ، ولأن الله تعالى أمر أن ترد الأمانات إلى أهلها ثم إنه لو قال : والله لأؤدين إليك أمانتك غدا إن شاء الله تعالى ولم يفعل لم يحنث ولو كان مراد الله لوجب أن يحنث . ولا حنث بالإجماع ، خلافا لمن حنثه كالجبائي . وخرق الإجماع ، قال الشيخ الموفق والطوفي وغيرهما من الأصحاب : لنا على أن الأمر لا يشترط له إرادة : إجماع أهل اللغة على عدم اشتراطها . قالوا : الصيغة مستعملة فيما سبق من المعاني . فلا تتعين للأمر إلا بالإرادة . إذ ليست أمرا لذاتها ولا لتجردها عن القرائن ، قلنا : استعمالها في غير الأمر مجاز ، فهي بإطلاقها له . ثم الأمر والإرادة ينفكان كمن يأمر ولا يريد ، أو يريد ولا يأمر . فلا يتلازمان ، وإلا اجتمع النقيضان ( والاستعلاء ) طلب ( بغلظة . والعلو : كون الطالب أعلى رتبة ) قال القرافي في التنقيح : الاستعلاء هيئة في الأمر من الترفع أو إظهار الأمر ، والعلو يرجع إلى هيئة الآمر من شرفه وعلو منزلته بالنسبة إلى المأمور انتهى . قال البرماوي : والمراد بالعلو أن يكون الآمر في نفسه عاليا ، أي أعلى درجة من المأمور ، والاستعلاء أن يجعل الآمر نفسه عاليا بكبرياء أو غير ذلك ، سواء كان في نفس الأمر كذلك أو لا ، فالعلو من الصفات العارضة للآمر ، والاستعلاء من صفة صيغة الأمر وهيئة نطقه مثلا . قال ابن العراقي : فالعلو صفة للمتكلم ، والاستعلاء صفة للكلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية