الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون

فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله قيل : إنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه . قال عبد الرحمن بن سمرة : جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يدخل يده فيها ويقلبها ويقول : ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم اللهم لا تنس هذا اليوم لعثمان . وقال أبو سعيد الخدري : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان يقول : يا رب عثمان إني رضيت عن عثمان فارض عنه فما زال يدعو حتى طلع الفجر فنزلت : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى الآية .

الثانية : لما تقدم في الآية التي قبل ذكر الإنفاق في سبيل الله على العموم بين في هذه الآية أن ذلك الحكم والثواب إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه منا ولا أذى ؛ لأن المن والأذى مبطلان لثواب الصدقة كما أخبر تعالى في الآية بعد هذا ، وإنما على المرء أن يريد وجه الله تعالى وثوابه بإنفاقه على المنفق عليه ، ولا يرجو منه شيئا ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعي استحقاقه ، قال الله تعالى : لا نريد منكم جزاء ولا شكورا . ومتى أنفق ليريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه فهذا لم يرد وجه الله ، فهذا إذا أخلف ظنه فيه من بإنفاقه وآذى . وكذلك من أنفق مضطرا دافع غرم إما لمانة للمنفق عليه أو لقرينة أخرى من اعتناء معتن فهذا لم يرد وجه الله . وإنما يقبل ما كان عطاؤه لله وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله ، كالذي حكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أعرابيا أتاه فقال :


يا عمر الخير جزيت الجنه اكس بنياتي وأمهنه     وكن لنا من الزمان جنه
أقسم بالله لتفعلنه

[ ص: 280 ] قال عمر : إن لم أفعل يكون ماذا ؟ قال :


إذا أبا حفص لأذهبنه

قال : إذا ذهبت يكون ماذا ؟ - قال :


تكون عن حالي لتسألنه     يوم تكون الأعطيات هنه
وموقف المسئول بينهنه     إما إلى نار وإما جنه

فبكى عمر حتى اخضلت لحيته ثم قال : يا غلام ، أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره والله لا أملك غيره . قال الماوردي : وإذا كان العطاء على هذا الوجه خاليا من طلب جزاء وشكر وعريا عن امتنان ونشر كان ذلك أشرف للباذل وأهنأ للقابل . فأما المعطي إذا التمس بعطائه الجزاء ، وطلب به الشكر والثناء ، كان صاحب سمعة ورياء ، وفي هذين من الذم ما ينافي السخاء . وإن طلب الجزاء كان تاجرا مربحا لا يستحق حمدا ولا مدحا . وقد قال ابن عباس في قوله تعالى : ولا تمنن تستكثر أي لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها . وذهب ابن زيد إلى أن هذه الآية إنما هي في الذين لا يخرجون في الجهاد بل ينفقون وهم قعود ، وإن الآية التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم ، قال : ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأولين . قال ابن عطية : وفي هذا القول نظر ؛ لأن التحكم فيه باد .

الثالثة : قوله تعالى : منا ولا أذى المن ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها مثل أن يقول : قد أحسنت إليك ونعشتك وشبهه . وقال بعضهم : المن : التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه . والمن من الكبائر ، ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره ، وأنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ، وروى النسائي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة تتشبه بالرجال والديوث ، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والمدمن الخمر [ ص: 281 ] والمنان بما أعطى . وفي بعض طرق مسلم : المنان هو الذي لا يعطي شيئا إلا منة . والأذى : السب والتشكي ، وهو أعم من المن لأن المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه . وقال ابن زيد : لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه . وقالت له امرأة : يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا فإنهم إنما يخرجون يأكلون الفواكه فإن عندي أسهما وجعبة . فقال : لا بارك الله في أسهمك وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم .

قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فمن أنفق في سبيل الله ولم يتبعه منا ولا أذى كقوله : ما أشد إلحاحك وخلصنا الله منك ، وأمثال هذا فقد تضمن الله له بالأجر ، والأجر الجنة ، ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل ، والحزن على ما سلف من دنياه ؛ لأنه يغتبط بآخرته فقال : لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون . وكفى بهذا فضلا وشرفا للنفقة في سبيل الله تعالى . وفيها دلالة لمن فضل الغني على الفقير حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية