الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ القول فيما يقع به النسخ ] :

                                                                                                                                            وأما القسم الثاني : فيما يقع به النسخ : وهو أن يكون بمثل المنسوخ فينسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة .

                                                                                                                                            قال الله تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ البقرة : 106 ] .

                                                                                                                                            وفي المراد بنسخها وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : تبديلها قاله ابن عباس .

                                                                                                                                            والثاني : قبضها قاله السدي .

                                                                                                                                            وفي قوله " أو ننسها " وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : نتركها فلا تنسخ قاله ابن عباس .

                                                                                                                                            والثاني : نؤخرها ومنه بيع النساء .

                                                                                                                                            وفي هذا التأخير وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : نؤخر نسخها .

                                                                                                                                            والثاني : نؤخر نزولها .

                                                                                                                                            وفي قوله نأت بخير منها أو مثلها وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : بخير منها في المنفعة إما بالتخفيف وإما بكثرة الثواب ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه على التقديم والتأخير ، ومعناه : نأت منها بخير قاله أبو عبيد .

                                                                                                                                            [ ص: 78 ] فإذا كان كذلك لم يجز نسخ القرآن بالسنة كما صرح به الشافعي ووافقه عليه أصحابه .

                                                                                                                                            وإنما اختلفوا هل منع منه العقل أو الشرع ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : منع منه العقل ، لأنه يمنع من اعتراض المأمور على الأمر .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : بل منع منه الشرع دون العقل ، لأن التفويض إلى المأمور لا يمنع من مشاركة الأمر .

                                                                                                                                            وجوز أبو حنيفة نسخ القرآن بالسنة المستفيضة كما نسخت آية الوصايا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا وصية لوارث " .

                                                                                                                                            ودليلنا قول الله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل [ النحل : 101 ] . وقوله : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي [ يونس : 15 ] .

                                                                                                                                            وروى سفيان بن عيينة عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كلامي لا ينسخ كلام الله وكلام الله ينسخ كلامي " ، وكلام الله ينسخ بعضه بعضا " وهذا نص رواه الدارقطني .

                                                                                                                                            والذي نسخ آية الوصايا هو آية المواريث فكانت السنة بيانا .

                                                                                                                                            وأما نسخ السنة بالقرآن فالظاهر من مذهب الشافعي وما نص عليه في كتاب الرسالة القديم والجديد أنه لا يجوز نسخ السنة بالقرآن كما لا يجوز نسخ القرآن بالسنة .

                                                                                                                                            وقال أبو العباس بن سريج : يجوز نسخ السنة بالقرآن وإن لم يجز نسخ القرآن بالسنة لأن القرآن أوكد من السنة وخرجه قولا ثانيا للشافعي من كلام تأوله في الرسالة ، واستشهاده بأن الأمر أنفذ حكما من المأمور واستدلالا بأن الله تعالى نسخ على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما عقده مع قريش في الحديبية على رد من أسلم منهم لما جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مسلمة وطلبها أخواها منعه الله من ردها ونسخ عليه حكمه بقوله إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن [ الممتحنة : 10 ] . الآية إلى قوله فلا ترجعوهن إلى الكفار

                                                                                                                                            فدل هذا على جواز نسخ السنة بالقرآن .

                                                                                                                                            فاختلف أصحابنا في طريق الجواز والمنع في الشرع مع جوازه في العقل على ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أنه لا توجد سنة إلا ولها في كتاب الله تعالى أصل كانت السنة فيه بيانا [ ص: 79 ] لمجمله ، فإذا ورد الكتاب بنسخها كان نسخا لما في الكتاب من أصلها فصار ذلك نسخ الكتاب بالكتاب .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن الله تعالى يوحي إلى رسوله بما يخفيه عن أمته ، فإذا أراد نسخ ما سنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعلمه به حتى يظهر نسخه ثم يرد الكتاب بنسخه تأكيدا لنسخ رسوله فصار ذلك نسخ السنة بالسنة .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : أن نسخ السنة بالكتاب يكون أمرا من الله تعالى لرسوله بالنسخ فيكون الله تعالى هو الآمر به والرسول هو الناسخ له فصار ذلك نسخ السنة بالكتاب والسنة والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية