الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإذا مرض رجل وفي يده أرض لرجل قد أخذها مزارعة ، وعليه دين في الصحة ، والبذر من قبله فأقر أنه شرط لصاحب الأرض الثلثين ، ثم مات وأنكر ذلك الغ رماء : فإن كان أقر بعد ما استحصد الزرع - بدئ بدين الغرماء ; لأن هذا بمنزلة الإقرار بالعين ، والمريض إذا أقر بدين أو عين لم يصدق في حق غرماء الصحة فيبدأ بدينهم فيقضى ، فإن بقي شيء كان لصاحب الأرض مقدار أجر مثلها من الثلثين الذي أقر له به ، ولأن في مقدار أجر المثل أقر بسبب موجب للاستحقاق ، وهو يملك مباشرة ذلك السبب في حق ورثته فيصح إقراره بذلك القدر من جميع ماله ، فإن بقي من الثلثين بعد ذلك شيء كان له من الثلث ; لأن الزيادة على مقدار أجر المثل محاباة منه ، والمريض لو أنشأ المحاباة في مرض موته اعتبرت من ثلثه ، فكذلك إذا أقر به . وإن كان أقر بذلك حين طلع الزرع وفي ثلثي الزرع فضل عن أجر المثل يوم أقر بذلك فلم يثبت حتى استحصد الزرع ثم مات - فإن صاحب الأرض يضرب مع غرماء الصحة بمقدار أجر مثل [ ص: 157 ] الأرض من الثلثين فيتحاصون في ذلك لأنه أقر بما يملك إنشاءه ، فإن ابتداء عقد المزارعة قبل إدراك الزرع صحيح فتنفى التهمة عن إقراره في مقدار أجر المثل ويجعل كما لو أنشأ العقد ابتداء فتثبت المزاحمة بين غرماء الصحة وبين صاحب الأرض في ذلك ، بخلاف الأول فإن بعد استحصاد الزرع لا يجوز ابتداء عقد المزارعة بينهما فيتمكن في إقراره تهمة في حق غرماء الصحة . وإن كان الدين عليه بإقراره في المرض ففي الفصل الأول يتحاصون في ذلك لأنه أقر بدين ثم تعين ، وقد جمع بين الإقرارين حالة المرض فكأنهما وجدا معا .

وفي الفصل الثاني بدئ بأجر المثل لأنه لا تهمة في إقراره في حال يتمكن من إنشاء العقد ، ولهذا كان مزاحما لغرماء الصحة ، ومن يزاحم غرماء الصحة يكون مقدما على المقر له في المرض . ولو كان البذر من قبل رب الأرض كان المريض مصدقا فيما أقر له به ; لأن القول قول رب البذر هنا في مقدار ما شرط له . ولو أن المريض أقر أنه كان معينا له كان القول قوله في ذلك . فإذا أقر أنه كان مزارعة بجزء يسير أولى أن يقبل قوله في ذلك - وإن كان عليه دين الصحة - لأن إقراره هنا تصرف منه في منافعه ولا حق للغرماء والورثة في ذلك .

ولو كان المريض رب الأرض وعليه دين الصحة فأقر في مرضه بعد ما استحصد الزرع أنه شرط للمزارع الثلثين ثم مات - بدئ بدين الصحة ; لأن هذا إقرار منه بالعين في مرضه ، فإن بقي شيء كان للمزارع مقدار أجر مثله من ثلثي الزرع ; لأن إقراره بذلك القدر صحيح في حق الورثة فإنه يقر بالعين بسبب لا محاباة فيه ولو أقر بالدين بعد إقراره في حق الورثة ، ثم الباقي من الثلثين وصية له من الثلث ; لأن الباقي محاباة فيكون وصية تعتبر من الثلث أقر بها أو أنشأها . وإن كان أقر بذلك حين زرع المزارع وفي ثلثي الزرع يومئذ فضل عن أجر مثله ثم مات بعد ما استحصد الزرع يحاص المزارع غرماء الصحة بمقدار أجر مثله من ثلثي ما أخرجت الأرض بمنزلة ما لو أنشأ العقد ; لأن وجوب هذا القدر بسبب لا تهمة فيه ، ثم الباقي وصية له . وإن كان الدين على المريض بإقراره في مرضه ففي الوجه الأول يتحاصون ، وفي الوجه الثاني بدئ بأجر مثل المزارع . وحال رب الأرض في هذه المسألة كحال المزارع في المسألة الأولى ، وكذلك الحكم في المعاملة إذا مرض صاحب النخل وأقر بشيء من ذلك فهو نظير الفصل الأول فيما ذكرنا من التخريج . وإن كان المريض هو العامل فقال : شرط لي صاحب النخل السدس - فالقول قوله إذا صدقه صاحب النخل ; لأن الذي من جهته مجرد العمل . ولو قال كنت معينا له كان القول [ ص: 158 ] قوله فهنا أولى ولا يقبل بينة غرماء العامل وورثته على دعوى الزيادة لأنه مكذب لهم في ذلك ، والشهود إنما يثبتون الحق له ، فبعد ما أكذبهم لا تقبل شهادتهم له والورثة يقومون مقامه . ولو ادعى هو ذلك قبل موته وأقام البينة لا تقبل بينته فكذلك غرماؤه وورثته بعد موته .

ولا يمين على رب النخل أيضا ; لأن اليمين ينبني على دعوى صحيحة . وإن كان المريض صاحب النخل والعامل أحد ورثته فأقر له بشرط النصف بعد ما بلغ التمر - فإقراره باطل ; لأنه أقر بالعين له وإقرار المريض لوارثه بالعين باطل .

وإن كان أقر حين بدأ بالعمل وطلع الكفرى ثم مات بعد ما بلغ التمر - أخذ العامل مقدار أجر مثله من نصف التمر ، لأن إقراره هنا بمنزلة إنشاء العقد فلا تتمكن فيه التهمة بقدر أجر المثل ، ويحاص أصحاب دين الصحة به ويبدأ به قبل الدين الذي أقر به في مرضه ، ولا حق له في الزيادة على ذلك ; لأن الزيادة على ذلك وصية للوارث ولا وصية لوارث . وإن أراد الوارث العامل أن يستحلف بقية الورثة على ما بقي له مما أقر له به المريض بعد ما أخذ أجر مثله - فإن إقرار المعاملة كان في المرض فلا يمين عليهم ; لأنهم لو أقروا بما ادعى لم يلزمهم شيء ، وإن ادعى أنها كانت في الصحة وأنه أقر له بها في المرض - استحلفوا على عملهم ; لأنهم لو أقروا بما ادعى لزمهم ، فإن أنكروا استحلفوا على عملهم لرجاء نكولهم .

وإن كان المريض هو العامل ورب النخل من ورثته صدق فيما أقر به من قلة نصيبه ، كما لو زعم أنه كان معينا له ، وهذا لأن تصرفه في منافعه وللمريض أن يتبرع بمنافعه على وارثه إلا أن بينة غرمائه وورثته على الزيادة مقبولة في هذا الوجه ، ولهم أن يستحلفوه إن لم يكن لهم بينة ; لأن إقرار المريض فيما يكون فيه منفعة للورثة باطل . ولو لم يقر بذلك كانت البينة منهم على دعوى الزيادة مقبولة ويستحلف الخصم إذا أنكر ، فكذلك إذا طلب إقراره بما أقر به . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية