الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر وقعة كمرجه

ثم إن خاقان حصر كمرجه ، وهي من أعظم بلدان خراسان ، وبها جمع من المسلمين ، ومع خاقان أهل فرغانة وأفشينة ونسف وطوائف من أهل بخارى ، فأغلق المسلمون الباب ، وقطعوا القنطرة التي على الخندق . فأتاهم ابن خسرو بن يزدجرد ، فقال : يا معشر العرب لم تقتلون أنفسكم ؟ أنا الذي جئت بخاقان ليرد علي مملكتي ، وأنا آخذ لكم الأمان . فشتموه . وأتاهم بازغرى في مائتين ، وكان داهية ، وكان خاقان لا يخالفه ، فدنا من المسلمين بأمان ، وقال : لينزل إلي رجل منكم أكلمه بما أرسلني به خاقان . فأحدروا يزيد بن سعيد الباهلي ، وكان يفهم بالتركية يسيرا ، فقال له : إن خاقان أرسلني ، وهو يقول إني أجعل من عطاؤه منكم ستمائة ألفا ، ومن عطاؤه ثلاثمائة ستمائة ، وهو يحسن إليكم . فقال [ له ] يزيد : كيف تكون العرب وهم ذئاب مع الترك وهم شاء ! لا يكون بيننا وبينهم صلح . فغضب بازغرى ، وكان معه تركيان ، فقالا : ألا تضرب عنقه ؟ فقال : إنه نزل بأمان . وفهم يزيد ما قالا ، فخاف ، فقال : بلى إنما تجعلوننا نصفين ، فيكون نصفنا مع أثقالنا ، ويسير النصف معكم ، فإن ظفرتم فنحن معكم ، وإن كان غير ذلك كنا كسائر مدائن الصغد . فرضوا بذلك ، وقال : أعرض على أصحابي هذا . وصعد في الحبل ، فلما صار على السور نادى : يا أهل كمرجه ، اجتمعوا ، فقد جاءكم قوم يدعونكم إلى الكفر بعد الإيمان ، فما ترون ؟ قالوا : لا نجيب ولا نرضى . قال : يدعونكم إلى قتال المسلمين مع المشركين . قالوا : نموت قبل ذلك . فرد بازغرى .

ثم أمر خاقان بقطع الخندق ، فجعلوا يلقون الحطب الرطب ، ويلقي المسلمون الحطب اليابس ، حتى سوي الخندق ، فأشعلوا فيه النيران ، وهاجت ريح شديدة صنعا من الله ، فاحترق الحطب ، وكانوا جمعوه في سبعة أيام ، في ساعة واحدة .

ثم فرق خاقان على الترك أغناما ، وأمرهم أن يأكلوا لحمها ، ويحشوا جلودها ترابا ، ويكبسوا خندقها ، ففعلوا ذلك ، فأرسل الله سحابة فمطرت مطرا شديدا ، فاحتمل السيل ما في الخندق ، وألقاه في النهر الأعظم . ورماهم المسلمون بالسهام ، فأصابت بازغرى [ ص: 192 ] نشابة في سرته فمات من ليلته ، فدخل عليهم بموته أمر عظيم . فلما امتد النهار جاءوا بالأسرى التي عندهم ، وهم مائة ، فيهم أبو العوجاء العتكي ، والحجاج بن حميد النضري ، فقتلوهم ورموا برأس الحجاج ، وكان عند المسلمين مائتان من أولاد المشركين رهائن ، فقتلوهم واستماتوا ، واشتد القتال .

ولم يزل أهل كمرجه كذلك حتى أقبلت جنود العرب فنزلت فرغانة ، فعير خاقان أهل الصغد ، وفرغانة ، والشاش ، والدهاقين ، وقال : زعمتم أن في هذه خمسين حمارا ، وأنا نفتحها في خمسة أيام ، فصارت الخمسة شهرين . وأمرهم بالرحيل وشتمهم ، فقالوا : ما ندع جهدا ، فأحضرنا غدا ، وانظر ما نصنع . فلما كان الغد وقف خاقان ، وتقدم الطاربند ، فقاتل المسلمين ، فقتل منهم ثمانية ، وجاء حتى وقف على ثلمة إلى جنب بيت فيه مريض من تميم ، فرماه التميمي بكلوب ، فتعلق بدرعه ، ثم نادى النساء والصبيان ، فجذبوه فسقط لوجهه ، ورماه رجل بحجر ، فأصاب أصل أذنه ، فصرع ، وطعنه آخر ، فقتله ، فاشتد قتله على الترك .

وأرسل خاقان إلى المسلمين : إنه ليس من رأينا أن نرتحل عن مدينة نحاصرها دون افتتاحها ، أو ترحلهم عنها . فقالوا له : ليس من ديننا أن نعطي بأيدينا حتى نقتل ، فاصنعوا ما بدا لكم . فأعطاهم الترك الأمان أن يرحل خاقان عنهم ويرحلوا هم ( عنها إلى سمرقند أو الدبوسية ، فرأى أهل كمرجه ما هم فيه من الحصار ، فأجابوا إلى ذلك ، فأخذوا من الترك رهائن أن لا يعرضوا لهم ، وطلبوا أن كورصول التركي يكون معهم في جماعة ) ليمنعهم إلى الدبوسية ، فسلموا إليهم الرهائن وأخذوا أيضا هم من المسلمين رهائن ، وارتحل خاقان عنهم ، ثم رحلوا هم بعده ، فقال الأتراك الذين مع كورصول : إن بالدبوسية عشرة آلاف مقاتل ، ولا نأمن أن يخرجوا علينا . فقال لهم المسلمون : إن قاتلوكم قاتلناهم معكم .

فساروا ، فلما صار بينهم وبين الدبوسية فرسخ نظر أهلها إلى الفرسان فظنوا أن كمرجه فتحت ، وأن خاقان قد قصدهم ، فتأهبوا للحرب ، فأرسل المسلمون إليهم يخبرونهم خبرهم ، فالتقوهم وحملوا من كان يضعف عن المشي ومن كان مجروحا . فلما بلغ المسلمون الدبوسية أرسلوا إلى من عنده الرهائن يعلمونه بوصولهم ، ويأمرونه بإطلاقهم ، فجعلت العرب تطلق رجلا من الرهن والترك رجلا ، حتى بقي سباع بن [ ص: 193 ] النعمان مع الترك ، ورجل من الترك عند العرب ، وجعل كل فريق يخاف من صاحبه الغدر ، فقال سباع : خلوا رهينة الترك ، فخلوه ، وبقي سباع مع الترك ، فقال له كورصول : ما حملك على هذا ؟ قال : وثقت بك وقلت : ترفع نفسك عن الغدر ، فوصله كورصول وأعطاه سلاحه وبرذونا وأطلقه .

وكانت مدة حصار كمرجه ثمانية وخمسين يوما ، فيقال : إنهم لم يسقوا إبلهم خمسة وثلاثين يوما .

التالي السابق


الخدمات العلمية