الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم ) .

                          ذكر الرازي أن وجه الاتصال والتناسب بين هذه الآيات وما قبلها ، يرجع إلى سياق الكلام على أهل الكتاب ; لأن ما بعده جاء على سبيل الاستطراد ، وقد جاء في ذلك السياق أن اليهود قد هموا ببسط أيديهم إلى الرسول وبعض المؤمنين بالسوء وقصد الاغتيال ، لما [ ص: 305 ] كانوا عليه من العتو على الأنبياء وشدة الإيذاء لهم ، وأنهم كانوا هم والنصارى مغرورين بدينهم ، يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه ، فأرشد الله المؤمنين وأمرهم بأن يتقوه ويبتغوا إليه وحده الوسيلة بالعمل الصالح ، ولا يكونوا كأهل الكتاب في افتتانهم وغرورهم ، هذا معنى ما قاله ، والوجه في التناسب عندي أن يبنى على أسلوب القرآن الذي امتاز به على سائر الكلام من حيث كونه مثاني للهداية والموعظة والعبرة ، لا تبلى جدته ، ولا تمل قراءته ، والركن الأول لهذا الأسلوب أن يكون الكلام في كل موضوع مختصرا مفيدا ، تتخلله أسماء الله وصفاته ، والتذكير بوحدانيته ووجوب تقواه والإخلاص له ، والتوجه إليه وحده ، وبالدار الآخرة والجزاء فيها على الأعمال ، فبناء على هذا الأسلوب قفى الله تعالى على قصة ابني آدم وما ناسبها من بيان حدود الذين يبغون على الناس ويفسدون في الأرض بالأمر بالتقوى ، ومنها اتقاء الحسد والبغي والفساد ، الذي هو سبب الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة ، وبابتغاء الوسيلة إليه تعالى والجهاد في سبيله ، رجاء الفلاح والفوز بالسعادة ، وبوعيد الكفار الذين لا يتقون الله ولا يتوسلون إليه بما يرضيه ، فقال : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ) اتقاء الله هو اتقاء سخطه وعقابه . وسخطه وعقابه أثر لازم لمخالفة سننه في الأنفس والآفاق ، ومخالفة دينه وشرعه الذي يعرج بالأرواح إلى سماء الكمال . والوسيلة إليه هي ما يتوسل به إليه ; أي ما يجري أن يتوصل به إلى مرضاته والقرب منه ، واستحقاق المثوبة في دار كرامته ، ولا يعرف ذلك على الوجه الصحيح إلا بتعريفه تعالى ، وقد تفضل علينا بهذا التعريف بوحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم . قال الراغب : الوسيلة التوصل إلى الشيء برغبة ، وهي أخص من الوصيلة ; لتضمنها معنى الرغبة . . . وحقيقة الوسيلة إلى الله مراعاة سبيله بالعلم والعبادة ، وتحري مكارم الشريعة ، وهي كالقربة . انتهى . وروي تفسير الوسيلة بالقربة عن حذيفة ، وصححه الحاكم عنه ، ورواه ابن جرير عن عطاء ومجاهد والحسن وعبد الله بن كثير ، وروى هو وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في الآية أنه قال : تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه ، وروي عن ابن زيد تفسيرها بالمحبة ، قال : أي تحببوا إلى الله ، وقرأ : ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ) ( 17 : 57 ) وعن السدي أنها المسألة والقربة ، وروى ابن الأنباري أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الوسيلة فقال : الحاجة ، قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، أما سمعت عنترة وهو يقول :

                          إن الرجال لهم إليك وسيلة إن يأخذوك تكحلي وتخضبي

                          ولم يرو ابن جرير هذا ، واستدل بالبيت على تفسير الوسيلة بالقربة ، وإرادة القربة من البيت أظهر من إرادة الحاجة ، على أنه لا ينافيه ، كما لا ينافيه تفسيرها بالمحبة ، فإن [ ص: 306 ] طلب الحاجة من الله ومحبة الله مما يتقرب به إليه ، وتفسير الوسيلة بما فسرناها به أعم ، وهو المطابق للغة . قال في لسان العرب : الوسيلة في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء ، ويتقرب به إليه ، وذلك بعد أن فسر الوسيلة بالمنزلة عند الملك وبالقربة ، وقال : ووسل فلان إلى الله وسيلة ، إذا عمل عملا تقرب به إليه ، والواسل الراغب ، قال لبيد :

                          أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم     بلى كل ذي رأي إلى الله واسل

                          ثم ذكر من معانيها الوصلة والقربى . وإنما يؤخذ عن أهل اللغة أصل المعنى ، ويرجح به بعض التفسير المأثور على بعض . وللوسيلة معنى في الحديث غير معناها هنا .

                          روى أحمد والبخاري وأصحاب السنن الأربعة من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قال حين يسمع النداء ، أي الأذان : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته . حلت له شفاعتي يوم القيامة " ، وروى أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه ، من حديث عبد الله بن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا ، ثم سلوا لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة " ، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم للوسيلة يؤيده قول نقلة اللغة أن من معانيها المنزلة عند الملك ، فيظهر أن هذه الوسيلة الخاصة هي أعلى منازل الجنة ، فمن دعا الله تعالى أن يجعلها للنبي صلى الله عليه وسلم كافأه النبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة ، وهي دعاء أيضا ، والجزاء من جنس العمل ، فالوسيلة في الحديث اسم لمنزلة في الجنة معينة ، وفي القرآن اسم لكل ما يتوصل به إلى مرضاة الله من علم وعمل .

                          ( وجاهدوا في سبيله ) أي جاهدوا أنفسكم بكفها عن الأهواء ، وحملها على التزام الحق في جميع الأحوال ، وجاهدوا أعداء الإسلام الذين يقاومون دعوته وهدايته للناس ; فالجهاد من الجهد ، وهو المشقة والتعب ، وسبيل الله هي طريق الحق والخير والفضيلة ; فكل جهد يحمله الإنسان في الدفاع عن الحق والخير والفضيلة ، أو في تقريرها وحمل الناس عليها ، فهو جهاد في سبيل الله . ( لعلكم تفلحون ) أي اتقوا ما يجب تركه ، وابتغوا ما يجب فعله من أسباب مرضاة الله وقربه ، واحتملوا الجهد والمشقة في سبيله رجاء الفوز والفلاح والسعادة في المعاش والمعاد .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية