الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( القيوم )

قال أبو جعفر : قد ذكرنا اختلاف القرأة في ذلك ، والذي نختار منه ، وما العلة التي من أجلها اخترنا ما اخترنا من ذلك .

فأما تأويل جميع الوجوه التي ذكرنا أن القرأة قرأت بها فمتقارب . ومعنى ذلك كله : القيم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبيره وتصريفه فيما شاء وأحب من تغيير وتبديل وزيادة ونقص كما : -

6550 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى بن ميمون قال : حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله - جل ثناؤه - : " الحي القيوم " قال : القائم على كل شيء . [ ص: 158 ]

6551 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .

6552 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " القيوم " قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه .

وقال آخرون : " معنى ذلك : القيام على مكانه " . ووجهوه إلى القيام الدائم الذي لا زوال معه ولا انتقال ، وأن الله - عز وجل - إنما نفى عن نفسه بوصفها بذلك التغير والتنقل من مكان إلى مكان ، وحدوث التبدل الذي يحدث في الآدميين وسائر خلقه غيرهم .

ذكر من قال ذلك :

6553 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " القيوم " القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول ، وقد زال عيسى في قولهم يعني في قول الأحبار الذين حاجوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجران في عيسى عن مكانه الذي كان به ، وذهب عنه إلى غيره .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب ما قاله مجاهد والربيع ، وأن ذلك وصف من الله - تعالى ذكره - نفسه بأنه القائم بأمر كل شيء ، في رزقه والدفع عنه ، وكلاءته وتدبيره وصرفه في قدرته من قول العرب : " فلان قائم بأمر هذه البلدة " يعني بذلك : المتولي تدبير أمرها . [ ص: 159 ]

ف " القيوم " إذ كان ذلك معناه " الفيعول " من قول القائل : " الله يقوم بأمر خلقه " . وأصله " القيووم " غير أن " الواو " الأولى من " القيووم " لما سبقتها " ياء " ساكنة وهي متحركة قلبت " ياء " فجعلت هي و " الياء " التي قبلها " ياء " مشددة ؛ لأن العرب كذلك تفعل ب " الواو " المتحركة إذا تقدمتها " ياء " ساكنة .

وأما " القيام " فإن أصله " القيوام " وهو " الفيعال " من " قام يقوم " سبقت " الواو " المتحركة من " قيوام " " ياء " ساكنة ، فجعلتا جميعا " ياء " مشددة .

ولو أن " القيوم " " فعول " كان " القووم " ولكنه " الفيعول " . وكذلك " القيام " لو كان " الفعال " لكان " القوام " كما قيل : " الصوام والقوام " وكما قال - جل ثناؤه - : ( كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ) [ سورة المائدة : 8 ] ، ولكنه " الفيعال " فقيل : " القيام " .

وأما " القيم " فهو " الفيعل " من " قام يقوم " سبقت " الواو " المتحركة " ياء " ساكنة فجعلتا " ياء " مشددة ، كما قيل : " فلان سيد قومه " من " ساد يسود " و " هذا طعام جيد " من " جاد يجود " وما أشبه ذلك .

وإنما جاء ذلك بهذه الألفاظ ؛ لأنه قصد به قصد المبالغة في المدح ، فكان " القيوم " و " القيام " و " القيم " أبلغ في المدح من " القائم " وإنما كان عمر رضي الله عنه يختار قراءته - إن شاء الله - " القيام " ؛ لأن ذلك الغالب على منطق أهل الحجاز في ذوات الثلاثة من " الياء " " الواو " فيقولون للرجل الصواغ : [ ص: 160 ] " الصياغ " ويقولون للرجل الكثير الدوران : " الديار " . وقد قيل إن قول الله - جل ثناؤه - : ( لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) [ سورة نوح : 26 ] إنما هو " دوار " " فعالا " من " دار يدور " ولكنها نزلت بلغة أهل الحجاز ، وأقرت كذلك في المصحف .

التالي السابق


الخدمات العلمية