الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 90 ] قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون

استئناف ابتدائي بعد قوله : إن ما توعدون لآت فإن المقصود الأول منه هو وعيد المشركين كما مر ، فأعقبه بما تمحض لوعيدهم ، وهو الأمر المستعمل في الإنذار والتهديد ، ليملي لهم في ضلالهم إملاء يشعر ، في متعارف التخاطب ، بأن المأمور به مما يزيد المأمور استحقاقا للعقوبة واقترابا منها ، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يناديهم ويهددهم ، وأمر أن يبتدئ خطابهم بالنداء للاهتمام بما سيقال لهم ؛ لأن النداء يسترعي إسماع المنادين ، وكان المنادي عنوان القوم لما يشعر به من أنه قد رق لحالهم حين توعدهم بقوله : إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين لأن الشأن أنه يحب لقومه ما يحب لنفسه .

والنداء للقوم المعاندين بقرينة المقام الدال على أن الأمر للتهديد ، وأن عملهم مخالف لعمله ، لقوله : اعملوا ) مع قوله : ( إني عامل .

فالأمر في قوله : اعملوا للتسوية والتخلية لإظهار اليأس من امتثالهم للنصح بحيث يغير ناصحهم نصحهم إلى الإطلاق لهم فيما يحبون أن يفعلوا ، كقوله تعالى : اعملوا ما شئتم وهذا الاستعمال استعارة إذ يشبه المغضوب عليه المأيوس من ارعوائه بالمأمور بأن يفعل ما كان ينهى عنه ، فكأن ذلك المنهي صار واجبا ، وهذا تهكم .

والمكانة : المكان ، جاء على التأنيث مثل ما جاء المقامة للمقام ، والدارة اسما للدار ، والماءة للماء الذي ينزل حوله ، يقال : أهل الماء وأهل الماءة .

والمكانة هنا مستعارة للحالة التي تلبس بها المرء ، تشبه الحالة في إحاطتها وتلبس صاحبها بها بالمكان الذي يحوي الشيء ، كما تقدم [ ص: 91 ] إطلاق الدار آنفا في قوله تعالى : لهم دار السلام أو تكون المكانة كناية عن الحالة ؛ لأن أحوال المرء تظهر في مكانه ومقره ، فلذلك يقال : يا فلان على مكانتك ؛ أي : اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه .

ومفعول ( اعملوا ) محذوف ؛ لأن الفعل نزل منزلة اللازم ؛ أي : اعملوا عملكم المألوف الذي هو دأبكم ، وهو الإعراض والتكذيب بالحق .

و ( على ) مستعملة في التمكن على وجه الاستعارة التبعية ، وهي مناسبة لاستعارة المكانة للحالة ؛ لأن العلاوة تناسب المكان ، فهي ترشيح للاستعارة ، مستعار من ملائم المشبه به لملائم المشبه ، والمعنى : الزموا حالكم فلا مطمع لي في اتباعكم .

وقرأ الجمهور : على مكانتكم بالإفراد ، وقرأه أبو بكر ، عن عاصم : " مكاناتكم " جمع مكانة ، والجمع باعتبار جمع المضاف إليه .

وجملة ( إني عامل ) تعليل لمفاد التسوية من الأمر في قوله : ( اعملوا ) أي : لا يضرني تصميمكم على ما أنتم عليه ، لكني مستمر على عملي ؛ أي : أني غير تارك لما أنا عليه من الإيمان والدعاء إلى الله .

وحذف متعلق إني عامل للتعميم مع الاختصار ، وسيأتي تفصيله في نظيره من سورة الزمر .

ورتب على عملهم وعمله الإنذار بالوعيد فسوف تعلمون بفاء التفريع ؛ للدلالة على أن هذا الوعيد متفرع على ذلك التهديد .

وحرف التنفيس مراد منه تأكيد الوقوع ؛ لأن حرفي التنفيس يؤكدان المستقبل كما تؤكد " قد " الماضي ، ولذلك قال سيبويه في الكلام على " لن " : إنها لنفي سيفعل ، فأخذ منه الزمخشري إفادتها تأكيد النفي .

[ ص: 92 ] وهذا صريح في التهديد ؛ لأن إخبارهم بأنهم سيعلمون يفيد أنه يعلم وقوع ذلك لا محالة ، وتصميمه على أنه عامل على مكانته ومخالف لعملهم يدل على أنه موقن بحسن عقباه وسوء عقباهم ، ولولا ذلك لعمل عملهم ؛ لأن العاقل لا يرضى الضر لنفسه ، فدل قوله : فسوف تعلمون على أن علمهم يقع في المستقبل ، وأما هو فعالم من الآن ، ففيه كناية عن وثوقه بأنه محق ، وأنهم مبطلون ، وسيجيء نظير هذه الآية في قصة شعيب من سورة هود .

وقوله : من تكون له عاقبة الدار استفهام ، وهو يعلق فعل العلم عن العمل ، فلا يعطى مفعولين استغناء بمفاد الاستفهام ؛ إذ التقدير : تعلمون أحدنا تكون له عاقبة الدار . وموضع ( من ) رفع على الابتداء ، وجملة تكون له عاقبة الدار خبره .

والعاقبة في اللغة : آخر الأمر ، وأثر عمل العامل ، فعاقبة كل شيء هي ما ينجلي عن الشيء ويظهر في آخره من أثر ونتيجة ، وتأنيثه على تأويل الحالة ، فلا يقال : عاقب الأمر ، ولكن عاقبة وعقبى .

وقد خصص الاستعمال لفظ العاقبة بآخرة الأمر الحسنة ، قال الراغب : العاقبة والعقبى يختصان بالثواب نحو والعاقبة للمتقين وبالإضافة قد يستعمل في العقوبة نحو ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى وقل من نبه على هذا ، وهو من تدقيقه ، وشواهده في القرآن كثيرة .

والدار الموضع الذي يحل به الناس من أرض أو بناء ، وتقدم آنفا عند قوله تعالى : لهم دار السلام وتعريف الدار هنا تعريف الجنس .

فيجوز أن يكون لفظ الدار مطلقا ، على المعنى الحقيقي ، فإضافة ( عاقبة ) إلى ( الدار ) إضافة حقيقية ؛ أي : حسن الأخارة الحاصل في الدار ، وهي الفوز بالدار ، والفلج في النزاع عليها ، تشبيها بما كان العرب يتنازعون على المنازل والمراعي ، وبذلك يكون قوله : من تكون له عاقبة الدار [ ص: 93 ] استعارة تمثيلية مكنية ، شبهت حالة المؤمنين الفائزين في عملهم ، مع حالة المشركين ، بحالة الغالب على امتلاك دار عدوه ، وطوي المركب الدال على الهيئة المشبه بها ، ورمز إليه بذكر ما هو من روادفه ، وهو عاقبة الدار فإن التمثيلية تكون مصرحة ، وتكون مكنية ، وإن لم يقسموها إليهما ، لكنه تقسيم لا محيص منه .

ويجوز أن تكون الدار مستعارة للحالة التي استقر فيها أحد ، تشبيها للحال بالمكان في الاحتواء ، فتكون إضافة ( عاقبة ) إلى ( الدار ) إضافة بيانية ؛ أي : العاقبة الحسنى التي هي حاله ، فيكون الكلام استعارة مصرحة .

ومن محاسنها هنا أنها بنت على استعارة المكانة للحالة في قوله : اعملوا على مكانتكم فصار المعنى : اعملوا في داركم ما أنتم عاملون فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار .

وفي الكلام مع ذلك إيماء إلى أن عاقبة تلك الدار ؛ أي : بلد مكة ، أن تكون للمسلمين ، كقوله تعالى : أن الأرض يرثها عبادي الصالحون وقد فسر قوله : من تكون له عاقبة الدار بغير هذا المعنى .

وقرأ الجمهور : ( من تكون ) بتاء فوقية ، وقرأه حمزة والكسائي بتحتية ؛ لأن تأنيث ( عاقبة ) غير حقيقي ، فلما وقع فاعلا فيجوز فيه أن يقرن بعلامة التأنيث وبدونها .

وجملة إنه لا يفلح الظالمون تذييل للوعيد يتنزل منزلة التعليل ؛ أي : لأنه لا يفلح الظالمون ، ستكون عقبى الدار للمسلمين ، لا لكم ؛ لأنكم ظالمون .

والتعريف في الظالمون للاستغراق ، فيشمل هؤلاء الظالمين ابتداء ، والضمير المجعول اسم ( إن ) ضمير الشأن تنبيها على الاهتمام بهذا الخبر وأنه أمر عظيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية