الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وأما اختيارنا الطيب بمنى قبل رمي الجمرة ; فلما قد ذكرنا قبل في اختيار التطيب للإحرام من النص - وممن قال بذلك من الصحابة ، وغيرهم - رضي الله عنهم ، فأغنى عن إعادته .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا : أن يرمي الجمرة ، وبدخول وقتها يحل للمحرم بالحج أو القران كل ما كان عليه حراما من اللباس ، والطيب ، والتصيد في الحل ، وعقد النكاح لنفسه ، [ ص: 138 ] ولغيره حاشا الجماع فقط ، فإنه حرام عليه بعد حتى يطوف بالبيت - : فهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان ، وأصحابهم .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك ، وسفيان : إذا رمى الجمرة حل له كل شيء إلا النساء ، والتصيد ، والطيب - قال : فإن تطيب فلا شيء عليه لما جاء في ذلك ، وإن تصيد فعليه الجزاء .

                                                                                                                                                                                          وذكروا في ذلك رواية عن عمر ، وابنه عبد الله : أنه حل له كل شيء إلا النساء والطيب - وعن سالم ، وعروة مثل هذا .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أما ابن عمر فقد روي عنه الرجوع ، وقد خالف في ذلك عمر : عائشة وغيرها ; كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا سفيان عن عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : قال عمر : { إذا رميتم الجمرة بسبع حصيات ، وذبحتم ، وحلقتم ، فقد حل لكم كل شيء ، إلا الطيب ، والنساء ; فقالت عائشة : أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا قول ابن عمر الذي لو اتبعوه لوفقوا - : ومن طريق وكيع عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن { ابن عباس قال : إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء ، فقال رجل : والطيب ؟ فقال ابن عباس : أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك أطيب ذلك أم لا } ؟ - : ومن طريق وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : إذا رميت الجمرة فقد حل لك كل شيء إلا النساء .

                                                                                                                                                                                          وعن سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر سمعت ابن الزبير يقول : إذا رميت الجمرة فقد حل لك كل شيء ما وراء النساء .

                                                                                                                                                                                          وهو قول عطاء ، وطاوس ، وعلقمة ، وخارجة بن زيد بن ثابت .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : قال الله تعالى : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } .

                                                                                                                                                                                          وجاء النص وإجماع المخالفين معناه على أن المحرم حرام عليه لباس القمص ، والعمائم ، والبرانس ، والخفين ، والسراويل ، وحلق الرأس ; ووافقونا مع مجيء النص على جواز لباس كل ذلك إذا رمى ونحر . [ ص: 139 ] وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما نذكر بعد هذا - إن شاء الله تعالى - جواز تقديم الطواف ، والذبح ، والرمي ، والحلق ، بعضها على بعض .

                                                                                                                                                                                          فصح أن الإحرام قد بطل بدخول وقت الرمي ، والحلق ، والنحر ، رمى أو لم يرم ، حلق أو لم يحلق ، نحر أو لم ينحر ، طاف أو لم يطف ; وإذا حل له الحلق الذي كان حراما في الإحرام ; فبلا شك أنه قد بطل الإحرام ، وبطل حكمه ; وإذا كان ذلك فقد حل ، فحل له الصيد الذي لم يحرم عليه إلا بالإحرام ، وحل له بالإحلال ، وكذلك الزواج والتزويج ; لأن النص إنما جاء بأن لا ينكح المحرم ، ولا ينكح ، ولا يخطب ، فصح أن هذا حرام على المحرم ، ومن حل له لباس القمص ، والبرانس ، وحلق الرأس لغير ضرورة فهو حلال لا محرم فالنكاح ، والإنكاح ، والخطبة حلال له ; إذ ليس محرما ، وأما الجماع فبخلاف هذا ; لأن الله تعالى قال : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } فحرم الرفث ، وهو الجماع في الحج جملة لا على المحرم خاصة ، وما دام يبقى من فرائض الحج شيء فهو بعد في الحج وإن لم يكن محرما ، والوطء حرام عليه ما دام في الحج .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ومالك يرى في الطيب المحرم على المحرم الفدية ، كما يرى الجزاء على المحرم في الصيد - ثم رأى هاهنا الجزاء في الصيد ولم ير الفدية في التطيب ، وهذا عجب فإن احتجوا له بالأثر الوارد في طيب النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يطوف بالبيت ؟ قلنا لهم : لا يخلو هذا الأثر من أن يكون صحيحا ففرض عليكم أن لا تخالفوه ، وأنتم قد خالفتموه ، أو يكون غير صحيح فلا تراعوه ، وأوجبوا الفدية على من تطيب كما أوجبتموها على من تصيد ، ولا فرق .

                                                                                                                                                                                          ثم نقول لهم : أخبرونا عن إيجابكم الجزاء على من تصيد في الحل بعد رمي جمرة العقبة ، أحرم هو أم غير حرم ؟ ولا سبيل إلى ثالث .

                                                                                                                                                                                          فإن قلتم : هو حرم ؟ قلنا لكم : فحرموا عليه اللباس الذي يحرم على المحرمين وحرموا عليه حلق رأسه . [ ص: 140 ] وإن قالوا : ليس حراما ؟ قلنا : فلا جزاء عليه في التصيد .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : قد جاء النص والإجماع بأمره بحلق رأسه ، وبلباس ما يحرم على المحرمين ؟ قلنا : فهذا برهان كاف في أنه ليس محرما ، وهذا ما لا مخلص [ لهم ] منه ; وأيضا فإنهم أوهموا أنهم تعلقوا بعمر ، وابن عمر ; وإنما عنهما المنع من التطيب لا من الصيد ، وهذا عجب جدا .

                                                                                                                                                                                          وأيضا فالقوم أصحاب قياس ، وهم قد أباحوا لباس القمص ، والسراويل وغير ذلك بعد رمي جمرة العقبة ، وحلق الرأس ، ومنعوا من الصيد ، والطيب .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : قسناه على الجماع ؟ قلنا : هذا قياس فاسد ، لأن اللباس ، والحلق ، والطيب ، والصيد عندكم خبر واحد ، وحكم واحد في أنه لا يبطل به الحج في الإحرام ، وكان للجماع خبر آخر ، لأنه لا يبطل به الحج في الإحرام ; فلو كان القياس حقا لكان قياس الطيب ، والصيد ، على اللباس ، والحلق أولى من قياسه على الجماع - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا - : إن نهض إلى مكة فطاف بالبيت سبعا - لا رمل فيها - وسعى بين الصفا والمروة ، إن كان متمتعا ، أو لم يسع إن كان قارنا ، وكان قد سعى بينهما في أول دخوله فقد تم حجه وقرانه ، وحل له النساء - فإجماع لا خلاف فيه مع النص في قوله تعالى : { وليطوفوا بالبيت العتيق } .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا - : إنهم يرجعون إلى منى فيقيمون بها ثلاث ليال بأيامها - يرمون في كل يوم من الأيام الثلاثة الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس بسبع حصيات سبع حصيات كل جمرة يبدأ بالقصوى ، ثم التي تليها ; ثم جمرة العقبة التي رمى يوم النحر ، وقد تم حجه وعمله كله - فإجماع لا خلاف فيه من أحد .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية