الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير ) جعل الله تعالى هذه الآية ذيلا لهذا السياق بين فيه ما ينبغي أن يحضر القلوب بعد تلك العبر والأحكام ، فقال ما حاصل المراد منه : ألم تعلم أيها السامع لهذا الخطاب أن الله تعالى له ملك السماوات والأرض ، يدبر الأمر فيهما بالحكمة والعدل ، والرحمة والفضل ، فكان من متعلقات اسمه العزيز الحكيم أن وضع هذا العقاب لكل من يسرق ما يعد به سارقا من ذكر أو أنثى ، كما وضع ذلك العقاب للمحاربين المفسدين ، ومن مقتضى اسمه الغفور الرحيم أن يغفر لمن تاب من هؤلاء وهؤلاء ويرحمه إذا صدق في التوبة وأصلح عمله ; فهو بمقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلى يعذب من يشاء تعذيبه من الجناة ؛ تربية له وتأمينا لعباده من شره ، ويرحم من يشاء من التائبين والمصلحين برحمته وفضله ؛ ترغيبا لعباده في تزكية أنفسهم ، وإصلاح ذات بينهم ، وهو على كل شيء من التعذيب والرحمة قدير ، لا يعجزه شيء في تدبير ملكه .

                          يجوز أن يكون الخطاب لكل من يسمع القرآن أو يقرؤه ، ويجوز أن يكون موجها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، والاستفهام فيه للتقرير ; أي إنك تعلم هذا فتذكره ، وذكر به . وجعله ابن جرير لأهل الكتاب الذين كانوا في المدينة وجوارها ، ومن على شاكلتهم الذين قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ; لأن السياق الذي انتهى ببيان حد السرقة كان في محاجتهم ، ومنها إبطال دعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، بأنهم بشر من جملة خلقه ، وأنه هو رب العباد ، ومالكهم المتصرف في أمرهم بالعدل والحكمة ، يغفر لمن يشاء ، ويعذب من يشاء كما تقدم [ ص: 317 ] فكأن ابن جرير يرى أن ما ذكر من وضع الله الحدود والعقوبات في الدنيا ، وبيان ما أعده من الخزي والعذاب للعصاة في الآخرة ، ينتظم في سلك الدلائل على إبطال دعوى قولهم إنهم أبناء الله وأحباؤه ، وإثبات كونهم بشرا من جملة خلقه ، يعذب من شاء منهم بالشرع وبالفعل كما يعذب غيرهم ، كما يرحم من يشاء . وتشهد بذلك شريعتهم ذات العقوبات القاسية ، وما وقع عليهم ، أفرادا وجماعات ، من عذاب الدنيا بالحرب والسبي والأمراض .

                          وقد تقدم هنا ذكر العذاب على ذكر الرحمة ، خلافا لما تكرر في القرآن حتى في مثل هذا التركيب من تقديم الرحمة أو المغفرة على العذاب ، ومنه الآية التي رد الله فيها على أهل الكتاب زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ; إذ قال : ( بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) ( 5 : 18 ) وحكمة هذا التقديم هنا ترتيب الآية على ما قبلها من بيان عقاب السارق أولا ، وذكر توبته ثانيا . فهي لا تنافي كون الرحمة المطلقة سابقة ومقدمة على العذاب المطلق .

                          واستدل الرازي وأمثاله بالآية على مذهب الأشاعرة القائلين بأنه يحسن من الله تعالى أن يعذب التائبين المصلحين والنبيين والصديقين ، ولو بتخليدهم في النار ، ويرحم المفسدين الظالمين ، ولو بتخليدهم في الجنة . ووجه الدلالة عندهم أنه تعالى ناط التعذيب والرحمة بالمشيئة ، ورتبه على كونه مالك الملك ، والمالك يتصرف في ملكه كما يشاء ، وما حسن لهم هذا القول واستنباط مثل هذا الدليل له إلا توجه ذكائهم وفهمهم إلى الرد على من نقلوا عنهم من المعتزلة ; أنه يجب عليه تعالى أن يفعل ما هو الأصلح لعباده ، فإن كان قد قال هذا القول بنصه أحد فهو مخطئ وقليل الأدب ; لأنه يوهم أن هنالك سلطانا فوق سلطان الله ، سبحانه ، يوجب عليه وإن كان لا يريد ذلك ، ولكن الأشاعرة لا يستطيعون أن ينكروا ولا أن يتأولوا ما ثبت في الكتاب والسنة من أن الله تعالى يوجب على نفسه ما يشاء ، فلا يكون ذلك نافيا لكونه صاحب الملك والتدبير ، ولا لتقييد مشيئته بسلطة سواه ، ولا هم ينكرون أن مشيئته لا تكون إلا على حسب علمه وحكمته ، وأنه لا يمكن أن تكون معطلة لصفة من صفاته ، فإذا لا وجه للقول بأن مقتضى الملك أن يكون كل عمل يعمله المالك حسنا من حيث إنه المالك ; إذ الأمر في الشرع والعقل والعرف ليس كذلك ، فالذي يملك عدة عبيد ، فيظلم المحسن منهم بالضرب والإهانة بغير ذنب منه ، ويحسن إلى الفاسق المسيء المفسد في داره وملكه ، يعد ظالما مذموما شرعا وعقلا ، ولغة وعرفا ، وأما كون كل ما يفعله الله تعالى فهو حق وحسن ، فليس سببه أنه المالك ، وكون المالك يحسن منه كل تصرف في ملكه من حيث إنه المالك ، بل لأنه تعالى منزه عن الظلم والنقص ، متصف بالحكمة والعدل ، والرحمة والفضل ، فتقديسه وتنزيهه وكماله يتجلى في أسمائه الحسنى كلها لا في اسم الملك والمالك والمريد فحسب .

                          [ ص: 318 ] وقد كانت العرب - بدوها وحضرها - تفهم من وضع أسماء الله تعالى في الآيات بحسب المناسبة ما لا يفهمه أمثال الرازي على إمامته في العلوم والفنون العربية ، واطلاعه على ما نقل عنهم في هذا الباب . ومن ذلك ما نقله عن الأصمعي في تفسير آية السرقة ، قال : " قال الأصمعي : كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي ، فقرأت هذه الآية ; فقلت : " والله غفور رحيم " سهوا ، فقال الأعرابي : كلام من هذا ؟ فقلت : كلام الله ، قال : أعد ، فأعدت : " والله غفور رحيم " ، ثم تنبهت ، فقلت : ( والله عزيز حكيم ) فقال : الآن أصبت ، فقلت : كيف عرفت ؟ قال : يا هذا ( عزيز حكيم ) فأمر بالقطع ، فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع . انتهى . فقد فهم الأعرابي الأمي أن مقتضى العزة والحكمة غير مقتضى المغفرة والرحمة ، وأن الله تعالى يضع كل اسم موضعه من كتابه ; ليدل على متعلقه في خلقه ، ولم يتأمل الرازي في كلام الأعرابي من هذا الوجه ، بل من وجه بلاغة المناسبات فقط . وسبحان من لا يغفل ولا يذهل ، ولا يضل ولا ينسى .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية