الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 243 ] صورة كتاب عن ابن عربي والاعتقاد فيه [ ص: 244 ] بسم الله الرحمن الرحيم

وما توفيقي إلا بالله

صورة كتاب كتبه شيخ الإسلام وقدوة الأنام، فريد عصره، وإمام وقته، أنموذج الطراز الأول، ومن عليه في زمانه المعول، الإمام العلامة، مفتي الفرق، تقي الدين أبو العباس أحمد ابن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، فسح الله في مدته للمسلمين، ونفع ببركته الطالبين، وجمع بيننا وبينه في دار كرامته آمين.

وذلك بسبب كلام وقع في الاعتقاد بين جماعة من الفقراء من أهل مدينة بعلبك في الاتحاد الذي أشار إليه ابن العربي في كلامه، وابن سبعين، وابن الفارض، وغيرهم ممن يعتقد مذهبهم ويوافقهم عليه، وذلك بحضرة جماعة من مشايخ دمشق، في مجلس الشيخ تقي الدين بدمشق.

واجتمع رأيهم جميعهم على أن القول بهذا الاتحاد إلحاد وكفر. وسألوا الشيخ -رضي الله عنه- أن يكتب بذلك كتابا إلى أهل بعلبك، ليعرفوا الحق فيتبعوه، والباطل ويجتنبوه. [ ص: 246 ]

بسم الله الرحمن الرحيم

من الداعي أحمد ابن تيمية إلى السادة الأجلاء الأكابر من أهل بعلبك ومن حولها، جمع الله قلوبهم على الهدى والرشاد، وأعانها على الصلاح والسداد، وجعلهم معتصمين بحبله المتين، متبعين لشريعة نبيهم خاتم المرسلين، وأصلح لهم أمر الدنيا والدين.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وإمام المتقين، محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد; فإنه حضر إلى دمشق المشايخ السادة: الشيخ الكبير أبو القاسم، وأخوه الشيخ محمد، والشيخ هارون المقدسي، واجتمعوا بمجلس فيه أعيان المشايخ السادة الذين يقتدى بهم، مثل سيدنا الشيخ عماد الدين الحزامي، والشيخ القدوة الشيخ محمد بن قوام البالسي، والشيخ العارف عبد الله الجزري، والشيخ تاج الدين الفارقي، والشيخ شهاب الدين ابن جبارة، وغيرهم من المشايخ.

وجرى الكلام فيما وقع الخوض فيه من أمر الاتحادية، كابن [ ص: 247 ] العربي والتلمساني وابن سبعين ونحوهم، وأحضر كتاب « فصوص الحكم» لابن العربي، وقرئ منه فصول متعددة، وقرئ أيضا بعض ما كتب من بيان حقيقة أمرهم، وكشف سر مذهبهم.

وظهر للجماعة حقيقة أمره، وأن حقيقة مذهبه: أن وجود الكائنات -حتى وجود الكلاب والخنازير، والأنتان والعذرات، والكفار والشياطين- هي عين وجود الحق، وأن أعيان الكائنات ثابتة في القدم، لم يخلقها الله ولم يبدعها، بل ظهر وجوده فيها، ولا يمكن أن يظهر وجوده إلا فيها، فهي غذاؤه بالأحكام، وهو غذاؤها بالوجود، وهو يعبدها وهي تعبده.

وأن عين الخالق هو عين المخلوق، وعين الحق المنزه هو عين الخلق المشبه، وأن الناكح هو المنكوح، والشاتم هو المشتوم، وأن عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله، ولا يمكن أن يعبد إلا الله.

وأن قوله: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه [الإسراء: 23] أي: حكم وقدر، وما حكم الله بشيء إلا وقع، فما عبد غير الله في كل معبود، وأن عباد الأصنام وقع تقصيرهم من حيث عبدوا بعض المجالي الإلهية، ولو عبدوا كل شيء لكانوا عارفين كاملين، وأن العارف الكامل يعلم ما عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن نوحا -عليه السلام- أثنى على قومه بلسان الذم، وأن أعيان المخلوقات هي نفس الخالق. [ ص: 248 ]

وأن الشخص الذي ادعاه أنه خاتم الأولياء هو أكمل من خاتم الأنبياء محمد من بعض الوجوه; فخاتم الأنبياء موضع لبنة، وخاتم الأولياء موضع لبنتين، وأنه أعلم من خاتم الأنبياء، وهو يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي إلى خاتم الأنبياء، وأن موسى ما عتب على هارون لما ذم قومه على عبادة العجل إلا لضيق هارون حيث لم يعرف أنهم إنما عبدوا الله!

وأن السحرة عرفوا صدق قول فرعون: أنا ربكم الأعلى [النازعات: 24]، و ما علمت لكم من إله غيري [القصص: 38]. إلى أنواع من هذه المقالات التي لا يعتقدها المسلمون ولا اليهود ولا النصارى ولا الصابئون ولا المشركون، وإنما هي قول المعطلة الذين ينكرون وجود الصانع، وينكرون أن الله رب العالمين، وأنه خالق الخلق، وهو حقيقة قول فرعون والقرامطة الباطنية الجاحدين لرب العالمين.

وكذلك يقر أعيان هؤلاء أن قولهم هو قول فرعون، ووقفوا على قوله: إن عبد الله ما له حقيقة، وأن أهل النار لا يتألمون فيها، بل يتنعمون في النار كما يتنعم أهل الجنة في الجنة!

فلما وقفوا على ذلك، اجتمعت كلمتهم واتفقت قلوبهم على أن هذا كفر وإلحاد، وأنهم برآء إلى الله تعالى من أهل الحلول والاتحاد، سواء [ ص: 249 ] قالوا بالحلول أو الاتحاد في شيء معين، كما تقوله النصارى في المسيح، والمغالية في علي وبعض أهل البيت، وكما تقوله طائفة في الحلاج، أو الحاكم بمصر، أو يونس، أو غير هؤلاء. أو قالوا: إن ذات الله حالة في كل مكان، كما تقوله طوائف من الجهمية. أو قالوا بمقالة هؤلاء الذين يقولون: إنه عين الموجودات، وليس للعالم خالق متميز عنه، ولا رب له وجود غير وجود الخلق، بل ينكرون الصانع ويعطلون الخالق.

التالي السابق


الخدمات العلمية