الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 429 ] المرتبة الثالثة

        ( الباب الثالث )

        [ في خلو الزمان عن المفتين ونقلة المذاهب ]

        636 - مضمون هذه المرتبة ذكر [ متعلق ] التكاليف إذا خلا الزمان عن المفتين وعن نقلة [ لمذاهب ] الأئمة الماضين ، فماذا يكون مرجع المسترشدين المستفتين في أحكام الدين ؟ .

        637 - وملاك الأمر في تصوير هذه المرتبة أن لا يخلو الدهر عن المراسم ( 226 ) الكلية ، ولا تعرى الصدور عن حفظ القواعد الشرعية ، وإنما تعتاص التفاصيل والتقاسيم والتفريغ . ولا يجد المستفتي من يقضي على حكم الله في الواقعة على التعيين .

        638 - فإذا لاح للناظر تصوير هذه المرتبة ، فنحن بعون الله نقدم على الخوض في مقصودها الخاص أمرا كليا في قواعد الشريعة ، يقضي اللبيب من حسنه العجب ، ويتهذب به الكلام [ ص: 430 ] في غرض المرتبة ويترتب ، ويجري مجرى الأس والقاعدة ، والملاذ المتبوع ، الذي إليه الرجوع . فنقول :

        639 - لا يخفى على من شدا طرفا من التحقيق أن مآخذ الشريعة مضبوطة محصورة ، وقواعدها معدودة محدودة ; فإن مرجعها إلى كتاب الله تعالى ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والآي المشتملة على الأحكام ، وبيان الحلال والحرام معلومة ، والأخبار المتعلقة بالتكاليف في الشريعة متناهية .

        640 - ونحن نعلم أنه لم يفوض إلى ذوي الرأي والأحلام أن يفعلوا ما يستصوبون فكم من أمر تقضي العقول بأنه الصواب في حكم الإيالة والسياسة ، والشرع وارد بتحريمه .

        [ ولسنا ] ننكر تعلق مسائل الشرع بوجوه من المصالح ، ولكنها مقصورة على الأصول المحصورة ، وليست ثابتة على الاسترسال في جميع وجوه الاستصلاح ، ومسالك الاستصواب .

        ثم نعلم مع ذلك أنه لا يخلو واقعة عن حكم الله تعالى على المتعبدين .

        [ ص: 431 ] 641 - وقد ذهب بعض من ينتمي إلى أصحابنا إلى أنه لا يبعد تقدير واقعة ليس في الشريعة حكم الله فيها وزعم إنها إذا اتفقت فلا تكليف على العباد فيها . وهذا زلل ظاهر .

        642 - والمعتقد أنه لا يفرض وقوع واقعة مع بقاء الشريعة بين ظهراني حملتها إلا وفي الشريعة ( 227 ) مستمسك بحكم الله فيها .

        643 - والدليل القاطع على ذلك أن أصحاب المصطفى - صلى الله عليه [ وسلم ] ، ورضي عنهم - استفتحوا النظر في الوقائع والفتاوى والأقضية فكانوا يعرضونها على كتاب الله [ تعالى ] ، فإن لم يجدوا فيها متعلقا ، راجعوا سنن المصطفى - عليه السلام - فإن لم يجدوا فيها شفاء ، اشتوروا ، واجتهدوا ، وعلى ذلك درجوا في تمادي دهرهم ، إلى انقراض عصرهم ، ثم استن من بعدهم بسنتهم ، فلم [ تتفق ] في مكر الأعصار ، وممر الليل والنهار واقعة نقضي بعروها عن موجب من موجبات التكليف .

        ولو كان ذلك [ ص: 432 ] ممكنا لكان يتفق وقوعه على تمادي الآماد ، مع التطاول والامتداد . فإذا لم يقع علمنا اضطرارا [ من ] مطرد الاعتياد أن الشريعة تشتمل كل واقعة ممكنة ، ولما قال رسول الله لمعاذ بن جبل [ رضي الله عنه ] : " بم تحكم يا معاذ ؟ " فقال : بكتاب الله . قال : " فإن لم تجد " ؟ قال : أجتهد رأيي .

        فقرره رسول الله - صلى الله عليه [ وسلم ] - وصوبه ، ولم يقل : فإن قصر عنك اجتهادك ، فماذا تصنع ؟ . فكان ذلك نصا على أن الوقائع تشملها القواعد التي ذكرها معاذ .

        644 - فإذا تقرر ذلك فلو قال قائل : ما يتوقع وقوعه من الوقائع لا نهاية له ، ومآخذ الأحكام متناهية ، فكيف يشتمل ما يتناهى على ما لا يتناهى ، وهذا إعضال لا يبوء بحمله إلا موفق ريان من علوم الشريعة .

        [ ص: 433 ] 645 - فنقول : [ للشرع ] مبنى بديع ، وأس هو منشأ كل تفصيل وتفريع ، وهو معتمد المفتي في الهداية الكلية والدراية وهو المشير إلى استرسال أحكام الله على الوقائع مع نفي النهاية ، وذلك أن قواعد الشريعة متقابلة بين النفي والإثبات ، والأمر والنهي والإطلاق ( 228 ) والحجر ، والإباحة والحظر ، ولا يتقابل قط أصلان إلا ويتطرق الضبط إلى أحدهما ، وتنتفي النهاية عن مقابله ومناقضه .

        646 - ونحن نوضح ذلك بضرب أمثال ، ثم نستصحب استعمال هذه القاعدة الشريفة في تفاصيل الأغراض من هذه المرتبة ، والله المستعان في كل حين وأوان ، فنقول :

        647 - قد حكم الشرع [ بتنجيس ] أعيان ، ومعنى النجاسة التعبد باجتناب ما نجسه الشرع في بعض العبادات على تفاصيل يعرفها حملة الشريعة في الحالات ، ثم ما يحكم الشرع بنجاسته ينحصر نصا واستنباطا ، وما لا يحكم الشرع بنجاسته [ ص: 434 ] لا نهاية له في ضبطنا ، فسبيل المجتهد أن يطلب ما يسأل عن نجاسته وطهارته [ من ] القسم المنحصر ، فإن لم يجده منصوصا فيه ، ولا ملتحقا به ، [ بالمسلك ] المضبوط المعروف عند أهله ، ألحقه بمقابل القسم ومناقضه ، وحكم بطهارته .

        648 - فاستبان أنه لا يتصور والحالة هذه خلو واقعة في النجاسة والطهارة عن حكم الله [ تعالى ] فيها .

        ثم هذا المسلك يطرد في جميع قواعد الشريعة ، ومنه ينبسط حكم الله تعالى على ما لا نهاية له .

        649 - وهذا السر في قضايا التكاليف لا يوازنه مطلوب من هذا الفن علوا وشرفا ، وسيزداد المطلع عليه كلما نهج في النظر منهاجا ، ثم يزداد اهتزازا وابتهاجا . فإذا تقرر هذا نقول :

        650 - المقصود الكلي من هذه المرتبة أن نذكر في كل أصل من [ ص: 435 ] أصول الشريعة قاعدة تنزل منزلة القطب من الرحى ، والأس من المبنى ، ونوضح أنها منشأ التفاريع وإليه انصراف الجميع .

        والمسائل الناشئة منها تنعطف عليها انعطاف بني المهود من الحاضنة إلى حجرها ، وتأزر إليها كما تأزر الحية إلى جحرها .

        651 - ولو أردت ( 229 ) أن أصف مضمون هذا الركن بالتراجم والعبارات الدالة على الجوامع والجمل ، انعقد الكلام ، ولم يحط به فهم المنتهي إليه .

        652 - وإذا فصلت ما أبتغيه فصلا فصلا ، وذكرت ما أحاوله أصلا أصلا ، تبين الغرض من التفصيل ، وعلى فضل الله وتيسيره التعويل . فلتقع البداية بكتاب الطهارة .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية