الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال مروان بن الحكم ، عن معاوية بن أبي سفيان بن حرب ، عن أبيه ، قال : خرجت أنا وأمية بن أبي الصلت تجارا إلى الشام ، فكان كلما نزلنا قرية أو بمنزل أخرج منه سفرا يقرؤه علينا ، فكنا كذلك حتى نزلنا بقرية من قرى النصارى ، فرأوه فعرفوه وأهدوا له ، فذهبوا ومضى معهم إلى بيعتهم ، ثم رجع وسط النهار فطرح نفسه ، واستخرج ثوبين أسودين ، فلبسهما ، ثم قال : يا أبا سفيان ، هل لك في عالم من علماء النصارى إليه تناهى علم الكتب تسأله عما بدا لك ؟ فقلت : لا ، فمضى هو وحده وجاءنا بعد [ ص: 405 ] هدأة من الليل فطرح ثوبيه ، ثم انجدل على فراشه ، فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح ، وأصبح كئيبا حزينا ما يكلمنا ولا نكلمه ، فسرنا ليلتين على ما به من الهم ، وقلت : ما رأيت مثل الذي رجعت به من عند صاحبك ، قال : لمنقلبي ؟ فقلت : وهل لك من منقلب ؟ قال : إي والله لأموتن ولأحاسبن ، قلت : فهل أنت قابل أماني ؟ قال : على ماذا ؟ قلت : إنك لا تبعث ولا تحاسب ، فضحك وقال : بلى والله لنبعثن ولنحاسبن ، وليدخلن فريق في الجنة وفريق في السعير ، قلت : ففي أيهما أنت أخبرك صاحبك ؟ قال : لا علم لصاحبي بذلك في ولا في نفسه ، فكنا في ذلك ليلنا يعجب منا ونضحك منه حتى قدمنا غوطة دمشق ، فبعنا متاعنا ، وأقمنا شهرين ، ثم ارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى فلما رأوه جاءوه وأهدوا له وذهب معهم إلى بيعتهم ، حتى جاءنا بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ، ثم رمى بنفسه على فراشه ، فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح مبثوثا حزينا ، ولا يكلمنا ولا نكلمه . فرحلنا فسرنا ليالي ، ثم قال : يا صخر ، حدثني عن عتبة بن ربيعة ، أيجتنب المحارم والمظالم ؟ قلت : أي والله ، قال : أويصل الرحم ويأمر بصلتها ؟ قلت : نعم ، قال : فكريم الطرفين وسيط في العشيرة ؟ قلت : نعم ، قال : فهل تعلم قريشا أشرف منه ؟ قلت : لا والله ، قال أمحوج هو ؟ قلت : لا بل هو ذو مال كثير ، قال : كم أتى له من السنين ؟ قلت : هو ابن سبعين قد قاربها ، قال : فالسن والشرف أزريا به ، قلت : والله بل زاده خيرا ، قال : هو ذاك ، ثم قال : إن الذي رأيت بي أني جئت هذا العالم فسألته عن هذا الذي ينتظر ، فقال : رجل من العرب من أهل بيت تحجه العرب ، فقلت : فينا بيت تحجه العرب ، قال هو من إخوانكم وجيرانكم من قريش ، فأصابني شيء ما أصابني مثله ، إذ خرج من يدي فوز الدنيا والآخرة ، وكنت أرجو أن أكون أنا هو ، فقلت : فصفه لي ؟ فقال : رجل شاب حين دخل في الكهولة ، بدؤ أمره أنه يجتنب المحارم والمظالم ، [ ص: 406 ] ويصل الرحم ويأمر بصلتها ، وهو كريم الطرفين ، متوسط في العشيرة ، أكثر جنده من الملائكة ، قلت : وما آية ذلك ؟ قال : رجفت الشام منذ هلك عيسى ابن مريم رجفات كلها فيها مصيبة ، وبقيت رجفة عامة فيها مصيبة يخرج على أثرها ، فقلت : هذا هو الباطل ، لئن بعث الله رسولا لا يأخذه إلا مسنا شريفا ، قال أمية : والذي يحلف به إنه لهكذا . فخرجنا حتى إذا كان بيننا وبين مكة ليلتان أدركنا راكب من خلفنا ، فإذا هو يقول : أصابت الشام رجفة دثر أهلها ، وأصابتهم مصيبة عظيمة ، فقال أمية : يا أبا سفيان ؟ فقلت : والله ما أظن صاحبك إلا صادقا .

وقدمنا مكة ثم انطلقت حتى أتيت أرض الحبشة تاجرا ، وكنت فيها خمسة أشهر ، ثم قدمت مكة فجاء الناس يسلمون علي وفي آخرهم محمد وهند تلاعب صبيانها ، فسلم علي ورحب بي ، وسألني عن سفري ومقدمي ، ثم انطلق ، وقلت : والله إن هذا الفتى لعجب ، ما جاءني من قريش أحد له بضاعة إلا سألني عنها وما بلغت ، والله إن له معي لبضاعة ما هو بأغناهم عنها ثم ما سألني عنها . فقالت : أوما علمت بشأنه ؟ فقلت - وفزعت - وما شأنه ؟ قالت : يزعم أنه رسول الله ، فذكرت قول النصراني فوجمت ، ثم قدمت الطائف فنزلت على أمية فقلت : هل تذكر حديث النصراني ؟ قال : نعم ، فقلت : قد كان ، قال : ومن ؟ قلت : محمد بن عبد الله ، فتصبب عرقا . فقلت : قد كان من أمر الرجل ما كان وأين أنت منه ؟ فقال : والله لا أومن بنبي من غير ثقيف أبدا . فهذا حديث أبي سفيان عن أمية ، وكذلك حديثه عن هرقل ، وهو في صحيح البخاري ، وكلاهما من أعلام النبوة المأخوذة من علماء أهل الكتاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية