الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ( 282 ) ) .

قوله تعالى : ( إلى أجل ) : هو متعلق بتداينتم ، ويجوز أن يكون صفة لدين ; أي مؤخر ومؤجل .

وألف ( مسمى ) منقلبة عن ياء ، وكذا كل ألف وقعت رابعة فصاعدا إذا كانت منقلبة ، فإنها تكون منقلبة عن ياء ، ثم ينظر في أصل الياء .

[ ص: 185 ] ( بالعدل ) : متعلق بقوله : " وليكتب " ; أي ليكتب بالحق ; فيجوز أن يكون ; أي وليكتب عادلا ، ويجوز أن يكون مفعولا به ; أي بسبب العدل ، وقيل : الباء زائدة والتقدير : وليكتب العدل .

وقيل : هو متعلق بكاتب ; أي كاتب موصوف بالعدل أو مختار .

( كما علمه الله ) : الكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف ، وهو من تمام أن يكتب .

وقيل : هو متعلق بقوله : " فليكتب " ويكون الكلام قد تم عند قوله أن يكتب والتقدير : فليكتب كما علمه الله .

( وليملل ) : ماضي هذا الفعل أمل ، وفيه لغة أخرى أملى ، ومنه قوله : ( فهي تملى عليه ) ، وفيه كلام يأتي في موضعه إن شاء الله .

( منه شيئا ) : يجوز أن يتعلق من بيبخس ، ويكون لابتداء غاية البخس .

ويجوز أن يكون التقدير : شيئا منه فلما قدمه صار حالا ، والهاء للحق .

( أن يمل ) : " هو " هو هنا توكيد ، والفاعل مضمر ، والجمهور على ضم الهاء ; لأنها كلمة منفصلة عما قبلها ، فهي مبدوء بها .

وقرئ بإسكانها على أن يكون أجرى المنفصل مجرى المتصل بالواو أو الفاء أو اللام ; نحو : وهو ، فهو ، لهو . ( بالعدل ) : مثل الأولى . ( من رجالكم ) : يجوز أن يكون صفة لشهيدين . ويجوز أن يتعلق باستشهدوا .

( فإن لم يكونا ) : الألف ضمير الشاهدين .

( فرجل ) : خبر مبتدأ محذوف ; أي فالمستشهد رجل وامرأتان . وقيل : هو فاعل ; أي فليستشهد رجل وقيل : الخبر محذوف تقديره : رجل وامرأتان يشهدون .

ولو كان قد قرئ بالنصب لكان التقدير : فاستشهدوا .

وقرئ في الشاذ وامرأتان بهمزة ساكنة ، ووجهه أنه خفف الهمزة ، فقربت من الألف ، والمقربة من الألف في حكمها ، ولهذا لا يبتدأ بها ، فلما صارت كالألف قلبها همزة ساكنة ، كما قالوا خأتم وعألم .

[ ص: 186 ] قال ابن جني : ولا يجوز أن يكون سكن الهمزة ; لأن المفتوح لا يسكن لخفة الفتحة لو قيل : إنه سكن الهمزة لتوالي الحركات ، وتوالي الحركات يجتنب ، وإن كانت الحركة فتحة كما سكنوا باء ضربت لكان حسنا . ( ممن ترضون ) : هو في موضع رفع صفة لرجل وامرأتين ، تقديره مرضيون .

وقيل : هو صفة لشهيدين ، وهو ضعيف للفصل الواقع بينهما .

وقيل : هو بدل من : " من رجالكم " وأصل ترضون ترضوون ; لأن لام الرضا واو لقولك الرضوان .

( من الشهداء ) : يجوز أن يكون حالا من الضمير المحذوف ; أي ترضونه كائنا من الشهداء ، ويجوز أن يكون بدلا من : " من " .

( أن تضل ) : يقرأ بفتح الهمزة على أنها المصدرية الناصبة للفعل ، وهو مفعول له ، وتقديره : لأن تضل إحداهما . ( فتذكر ) : بالنصب معطوف عليه . فإن قلت ليس الغرض من استشهاد المرأتين مع الرجل أن تضل إحداهما ، فكيف يقدر باللام ؟ .

فالجواب ما قاله سيبويه : إن هذا كلام محمول على المعنى ، وعادة العرب أن تقدم ما فيه السبب فيجعل في موضع المسبب ; لأنه يصير إليه ، ومثله قولك أعددت هذه الخشبة أن تميل الحائط فأدعمه بها ، ومعلوم أنك لم تقصد بإعداد الخشبة ميل الحائط ، وإنما المعنى لأدعم بها الحائط إذا مال ، فكذلك الآية ; لأن تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت أو لضلالها .

ولا يجوز أن يكون التقدير : مخافة أن تضل ; لأنه عطف عليه فتذكر ، فيصير المعنى مخافة أن تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت ، وهذا عكس المراد .

ويقرأ ( فتذكر ) : بالرفع على الاستئناف . ويقرأ ( إن ) : بكسر الهمزة على أنها شرط وفتحة اللام على هذا حركة بناء لالتقاء الساكنين ، فتذكر جواب الشرط ، ورفع الفعل لدخول الفاء الجواب .

ويقرأ بتشديد الكاف ، وتخفيفها ، يقال ذكرته وأذكرته ، و " إحداهما " الفاعل ، و " الأخرى " المفعول ، ويصح في المعنى العكس إلا أنه يمتنع في الإعراب على ظاهر قول [ ص: 187 ] النحويين ; لأن الفاعل والمفعول إذا لم يظهر فيهما علامة الإعراب أوجبوا تقديم الفاعل في كل موضع يخاف فيه اللبس ، فعلى هذا إذا أمن اللبس جاز تقديم المفعول ، كقولك كسر عيسى العصا ، وهذه الآية من هذا القبيل ; لأن النسيان والإذكار لا يتعين في واحدة منهما ; بل ذلك على الإيهام ، وقد علم بقوله : " فتذكر " أن التي تذكر هي الذاكرة ، والتي تذكر هي الناسية ، كما علم من لفظ كسر من يصح منه الكسر ، فعلى هذا يجوز أن يجعل إحداهما فاعلا ، والأخرى مفعولا ، وأن يعكس .

فإن قيل : لم لم يقل فتذكرها الأخرى ؟ قيل : فيه وجهان : أحدهما : أنه أعاد الظاهر ليدل على الإيهام في الذكر والنسيان ، ولو أضمر لتعين عوده إلى المذكور ، والثاني : أنه وضع الظاهر موضع المضمر تقديره : فتذكرها ، وهذا يدل على أن إحداهما الثانية مفعول مقدم ، ولا يجوز أن يكون فاعلا في هذا الوجه ; لأن الضمير هو المظهر بعينه والمظهر الأول فاعل تضل فلو جعل الضمير لذلك المظهر لكانت الناسية هي المذكرة وذا محال .

والمفعول الثاني لتذكر محذوف تقديره : الشهادة ونحو ذلك ; وكذلك مفعول : " يأب " . وتقديره : ولا يأب الشهداء إقامة الشهادة ، وتحمل الشهادة .

و ( إذا ) : ظرف ليأب ، ويجوز أن يكون ظرفا للمفعول المحذوف .

و ( أن تكتبوه ) : في موضع نصب بتسأموا ، وتسأموا يتعدى بنفسه ، وقيل : بحرف الجر . و ( صغيرا أو كبيرا ) : حالان من الهاء .

و ( إلى ) : متعلقة بتكتبوه . ويجوز أن تكون حالا من الهاء أيضا .

و ( عند الله ) : ظرف لأقسط . واللام في قوله : ( للشهادة ) : يتعلق بأقوم ، وأفعل يعمل في الظروف وحروف الجر ، وصحت الواو في " أقوم " كما صحت في فعل التعجب ، وذلك لجموده وإجرائه مجرى الأسماء الجامدة .

و ( أقوم ) : يجوز أن يكون من أقام المتعدية لكنه حذف الهمزة الزائدة ثم أتى بهمزة أفعل كقوله تعالى : ( أي الحزبين أحصى ) [ الكهف : 12 ] فيكون المعنى أثبت لإقامتكم الشهادة ، ويجوز أن يكون من قام اللازم ، ويكون المعنى ذلك أثبت لقيام الشهادة ، وقامت الشهادة ثبتت ، وألف ( أدنى ) : منقلبة عن واو ; لأنه من دنا يدنو .

[ ص: 188 ] و ( ألا ترتابوا ) : في موضع نصب ; وتقديره : وأدنى لئلا ترتابوا ، أو إلى أن لا ترتابوا . ( تجارة ) : يقرأ بالرفع على أن تكون التامة ، و ( حاضرة ) صفتها .

وتجوز أن تكون الناقصة ، واسمها تجارة ، وحاضرة صفتها ، و " تديرونها " الخبر ، و " بينكم " ظرف لتديرونها .

وقرئ بالنصب على أن يكون اسم الفاعل مضمرا فيه تقديره : إلا أن تكون المبايعة تجارة ، والجملة المستثناة في موضع نصب ; لأنه استثناء من الجنس ; لأنه أمر بالاستشهاد في كل معاملة ، واستثنى منه التجارة الحاضرة ، والتقدير : إلا في حال حضور التجارة .

ودخلت الفاء في : " فليس " إيذانا بتعلق ما بعدها بما قبلها .

و ( ألا تكتبوها ) : تقديره : في ألا تكتبوها ، وقد تقدم الخلاف في موضعه من الإعراب في غير موضع .

( ولا يضار كاتب ) : فيه وجوه من القراءات قد ذكرت في قوله : ( لا تضار والدة ) [ البقرة : 223 ] ، وقرئ هنا بإسكان الراء مع التشديد ، وهي ضعيفة ; لأنه في التقدير : جمع بين ثلاث سواكن إلا أن له وجها وهو أن الألف لمدها تجري مجرى المتحرك فيبقى ساكنان ، والوقف عليه ممكن ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، أو يكون وقف عليه وقفة يسيرة ، وقد جاء ذلك في القوافي . والهاء في : ( فإنه ) تعود على الإباء أو الإضرار . و ( بكم ) : متعلق بمحذوف تقديره : لاحق بكم . ( ويعلمكم الله ) : مستأنف لا موضع له .

وقيل : موضعه حال من الفاعل في اتقوا تقديره : واتقوا الله مضمونا التعليم أو الهداية . ويجوز أن يكون حالا مقدرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية