الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وأما قوله تعالى : ( بما استحفظوا من كتاب الله ) فمعناه أنهم يحكمون بها بسبب ما أودعوه من الكتاب ، وائتمنوا عليه ، وطلب منهم حفظه ; أي طلب منهم الأنبياء - موسى ومن بعده - أن يحفظوه ولا يضيعوا منه شيئا ، وناهيك بالعهد الذي أخذه موسى بأمر الله على شيوخ بني إسرائيل بعد أن كتب التوراة أن يحفظوها ولا يتحولوا عنها ، وقد تقدم في تفسير الميثاق من أواخر سورة النساء وأوائل هذه السورة ، وأنهم نقضوا ميثاق الله ، ولم يوفوا به ، [ ص: 330 ] وقد قال الله فيهم : إنهم استحفظوا ، ولم يقل إنهم حفظوا ، ولكنه قال : ( وكانوا عليه شهداء ) أي كان سلفهم الصالحون رقباء على الكتاب ، وعلى من يريد العبث به ، كما فعل عبد الله بن سلام في مسألة الرجم ، أو شهداء على أنه هو شرع الله تعالى لا كما فعل خلفهم من كتمان بعض أحكامه ; اتباعا للهوى ، أو خوفا من أشرافهم إن أقاموا عليهم حدوده ، وطمعا في برهم إذا حابوهم فيها ، وأعظم من ذلك كتمانهم صفة خاتم المرسلين والبشارة به ، وروي عن ابن عباس أن المراد : وكانوا على حكم النبي الموافق لحكم التوراة في حد الزنا شهداء ، ولعله أراد - إن صحت الرواية عنه - أن هذا مما يدخل في عموم صفات أحبار اليهود الصالحين ; تعريضا بجمهور الخلف الصالحين ، ولذلك شهد عبد الله بن سلام - وهو من بقية خيارهم - وكذا غيره بأن حكم التوراة رجم الزاني ; تصديقا وتأييدا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم .

                          ثم قال تعالى تعقيبا على ما قصه من سيرة سلف بني إسرائيل الصالح ، بعد بيان سوء سيرة الخلف الذين خلفوا بعدهم ، مخاطبا رؤساء اليهود الذين كانوا في زمن التنزيل ، لا يخافون الله في الكتمان والتبديل .

                          ( فلا تخشوا الناس واخشون ) أي إذا كان الأمر كما ذكر ، وهو ما لا تنكرونه كما تنكرون غيره مما قصه الله على رسوله من سيرة سلفكم ، فلا تخشوا الناس فتكتموا ما عندكم من الكتاب خوفا من بعضهم ، ورجاء في بعض ، واخشوني وحدي ، وأوفوا بعهدي ، فإن الأمر كله لي ( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ) أي لا تتركوا بيانها ، والعمل والإفتاء والحكم بها في مقابلة منفعة دنيوية ، لا يمكن أن تكون إلا قليلة بالنسبة إلى المنافع العاجلة والآجلة المترتبة على الاهتداء بآيات الله تعالى . وتقدم تفسير مثل هذه الجملة في سورة البقرة ، أو المراد من النهي إقامة الحجة عليهم ، ويؤيده قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) أي وكل من رغب عن الحكم بما أنزل الله من أحكام الحق والعدل ، فلم يحكم بها لمخالفتها لهواه أو لمنفعته الدنيوية ، فأولئك هم الكافرون بهذه الآيات ; لأن الإيمان الصحيح يستلزم الإذعان ، والإذعان يستلزم العمل وينافي الاستقباح والترك ، وهذه الجملة مقررة لما قبلها ، ومؤيدة لقوله تعالى في هذا السياق : ( وما أولئك بالمؤمنين ) ثم جاء بمثال من هذه الأحكام فقال :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية