الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) لما ذكر تعالى أشياء من مبدأ خلق الإنسان وأمر نبيه ، وانقسام الناس إلى مؤمن وكافر وذكر معادهم وحشرهم إلى جنة ونار ، ذكر مبدأ العالم واختراعه والتنبيه على الدلائل الدالة على التوحيد وكمال القدرة والعلم والقضاء ، ثم بعد إلى النبوة والرسالة إذ مدار القرآن على تقدير المسائل الأربع : التوحيد والقدرة والمعاد والنبوة ، وربكم خطاب عام للمؤمن والكافر ، وروى بكار بن . . . ( إن ربكم الله ) بنصب الهاء عطف بيان ، والظاهر أنه ( خلق السماوات والأرض في ستة أيام ) وعلى هذا الظاهر فسر معظم الناس وبدأ بالخلق يوم الأحد ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : أخذ بيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة فيما بعد العصر إلى الليل ، وقال عدي بن زيد العبادي :


قضى لستة أيام خليقته وكان آخر يوم صور الرجلا

وهو اختيار محمد بن إسحاق ، قال ابن الأنباري : هذا إجماع أهل العلم .

وقال عبد الله بن سلام وكعب ، والضحاك ، ومجاهد واختاره الطبري : بدأ بالخلق يوم الأحد . وبه يقول أهل التوراة ، وقيل : يوم الاثنين ، وبه يقول أهل الإنجيل ، قال ابن عباس ، وكعب ، ومجاهد ، والضحاك : مقدار كل يوم من تلك الأيام ألف سنة . ولا فرق بين خلقه تعالى ذلك في لحظة واحدة ، أو في مدد متوالية بالنسبة إلى قدرته تعالى ، وإبداء معان لذلك كما زعمه بعض المفسرين قول بلا برهان فلا نسود كتابنا بذكره وهو تعالى المنفرد بعلم ذلك ، وذهب بعض المفسرين إلى أن التقدير في قوله : ( في ستة أيام ) في مقدار ستة أيام فليست ستة الأيام أنفسها وقع فيها الخلق ، وهذا كقوله : ( ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ) والمراد مقدار البكرة والعشي في الدنيا ؛ لأنه لا ليل في الجنة ولا نهار وإنما ذهب الذاهب إلى هذا ؛ لأنه إنما يمتاز اليوم عن الليلة بطلوع الشمس وغروبها قبل خلق الشمس والقمر كيف يعقل خلق الأيام والذي أقول : إنه متى أمكن حمل الشيء على ظاهره ، أو على قريب من ظاهره كان أولى من حمله على ما لا يشمله العقل ، أو على ما يخالف الظاهر جملة وذلك بأن يجعل قوله : ( في ستة أيام ) ظرفا لخلق الأرض لا ظرفا لخلق السماوات والأرض فيكون ( في ستة أيام ) مدة لخلق الأرض بتربتها وجبالها وشجرها ومكروهها ونورها ودوابها وآدم - عليه السلام - ، وهذا يطابق الحديث الثابت في الصحيح وتبقى ستة أيام على ظاهرها من العددية ومن كونها أياما باعتبار امتياز اليوم عن الليلة بطلوع الشمس وغروبها ، وأما استواؤه على العرش فحمله على ظاهره من الاستقرار بذاته على العرش قوم ، والجمهور من السلف السفيانان ومالك والأوزاعي والليث ، وابن المبارك ، وغيرهم في أحاديث الصفات على الإيمان بها وإمرارها على ما أراد الله تعالى من غير تعيين مراد ، وقوم تأولوا ذلك على عدة تأويلات . وقال سفيان الثوري : فعل فعلا في العرش سماه استواء وعن أبي الفضل بن النحوي أنه قال : ( العرش ) مصدر عرش يعرش عرشا والمراد بالعرش في قوله : ( ثم استوى على العرش ) هذا ، وهذا ينبو عنه ما تقرر في الشريعة من أنه جسم مخلوق معين ومسألة الاستواء مذكورة في علم أصول الدين ، وقد أمعن في تقرير ما يمكن تقريره فيها القفال ، أبو عبد الله الرازي وذكر ذلك في التحرير فيطالع هناك ولفظة ( العرش ) [ ص: 308 ] مشتركة بين معان كثيرة ، فالعرش سرير الملك ومنه : ورفع أبويه على العرش ، نكروا لها عرشها ، والعرش السقف وكل ما علا وأظل فهو عرش والعرش الملك والسلطان والعز ، وقال زهير :


تداركتما عبسا وقد ثل عرشها     وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل



وقال آخر :


إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم     بعتيبة بن الحارث بن شهاب



والعرش الخشب الذي يطوى به البئر بعد أن يطوى أسفلها بالحجارة ، والعرش أربعة كواكب صغار ، أسفل من العواء يقال لها : عجز الأسد ويسمى عرش السماك ، والعرش ما يلاقي ظهر القدم وفيه الأصابع واستوى أيضا يستعمل بمعنى استقر وبمعنى علا وبمعنى قصد وبمعنى ساوى وبمعنى تساوى ، وقيل : بمعنى استولى ، وأنشدوا :


هما استويا بفضلهما جميعا     على عرش الملوك بغير زور



وقال ابن الأعرابي لا نعرف استوى بمعنى استولى والضمير في قوله : ( ثم استوى على العرش ) يحتمل أن يعود على المصدر الذي دل عليه خلق ، ثم استوى خلقه على العرش ، وكذلك في قوله : ( الرحمن على العرش استوى ) لا يتعين حمل الضمير في قوله استوى على الرحمن إذ يحتمل أن يكون الرحمن خبر مبتدأ محذوف والضمير في ( استوى ) عائد على الخلق المفهوم من قوله : ( تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا ) ، أي : هو الرحمن استوى خلقه على العرش ؛ لأنه تعالى لما ذكر خلق السماوات والأرض ذكر خلق ما هو أكبر وأعظم وأوسع من السماوات والأرض ومع الاحتمال في العرش وفي استوى وفي الضمير العائد لا يتعين حمل الآية على ظاهرها هذا مع الدلائل العقلية التي أقاموها على استحالة ذلك . وقال الحسن استوى أمره وسأل مالك بن أنس رجل عن هذه الآية ، فقال : كيف استوى فأطرق رأسه مليا وعلته الرحضاء ، ثم قال : الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أظنك إلا ضالا . ثم أمر به فأخرج .

( يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا ) التغشية التغطية ، والمعنى : أنه يذهب الليل نور النهار ليتم قوام الحياة في الدنيا بمجيء الليل والنهار ، فالليل للسكون ، والنهار للحركة وفحوى الكلام يدل على أن النهار يغشيه الله الليل ، وهما مفعولان ؛ لأن التضعيف والهمزة معديان ، وقرأ بالتضعيف الأخوان ، وأبو بكر وبإسكان الغين باقي السبعة [ ص: 309 ] وبفتح الياء وسكون الغين ، وفتح الشين وضم اللام حميد بن قيس ، كذا قال عنه أبو عمرو الداني ، وقال أبو الفتح عثمان بن جني عن حميد بنصب ( الليل ) ورفع ( النهار ) ، قال ابن عطية : وأبو الفتح أثبت . انتهى . وهذا الذي قاله من أن أبا الفتح أثبت كلام لا يصح ، إذ رتبة أبي عمرو الداني في القراءات ومعرفتها وضبط رواياتها واختصاصه بذلك بالمكان الذي لا يدانيه أحد من أئمة القراءات فضلا عن النحاة الذين ليسوا مقرئين ، ولا رووا القرآن عن أحد ولا روي عنهم القرآن هذا مع الديانة الزائدة والتثبت في النقل وعدم التجاسر ووفور الحظ من العربية فقد رأيت له كتابا في كلا ، وكتابا في إدغام أبي عمرو الكبير دلا على اطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه أئمة النحاة ولا المقرئين إلى سائر تصانيفه رحمه الله والذي نقله أبو عمرو الداني عن حميد أمكن من حيث المعنى ؛ لأن ذلك موافق لقراءة الجماعة إذ الليل في قراءتهم وإن كان منصوبا هو الفاعل من حيث المعنى إذ همزة النقل ، أو التضعيف صيره مفعولا ولا يجوز أن يكون مفعولا ثانيا من حيث المعنى ؛ لأن المنصوبين تعدى إليهما الفعل ، وأحدهما فاعل من حيث المعنى فيلزم أن يكون الأول منهما كما لزم ذلك في ملكت زيدا عمرا إذ رتبة التقديم هي الموضحة أنه الفاعل من حيث المعنى كما لزم ذلك في ضرب موسى عيسى . والجملة من يطلبه حال من الفاعل من حيث المعنى وهو الليل ، إذ هو المحدث عنه قبل التعدية وتقديره حاثا ، ويجوز أن يكون حالا من النهار وتقديره محثوثا ، ويجوز أن ينتصب نعتا لمصدر محذوف ، أي : طلبا حثيثا ، أي : حثا ، أو محثا ونسبة الطلب إلى الليل مجازية ، وهو عبارة عن تعاقبه اللازم فكأنه طالب له لا يدركه ، بل هو في إثره بحيث يكاد يدركه وقدم الليل هنا كما قدمه في ( يولج الليل في النهار ) وفي ( ولا الليل سابق النهار ) وفي ( وجعل الظلمات والنور ) ، وقال أبو عبد الله الرازي : وصف هذه الحركة بالسرعة والشدة ؛ لأن تعاقب الليل والنهار يحصل بحركة الفلك الأعظم وتلك الحركة أشد الحركات سرعة وأكملها شدة حتى إن الباحثين عن أحوال الموجودات قالوا : الإنسان إذا كان في العدو الشديد الكامل قبل أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل ، ولهذا قال : ( يطلبه حثيثا ) ونظيره ( لا الشمس ينبغي لها ) الآية شبه ذلك المسير وتلك الحركة بالسباحة في الماء والمقصود التنبيه على السرعة والسهولة وكمال الاتصال . انتهى وفيه بعض تلخيص .

( والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ) انتصب ( مسخرات ) على الحال من المجموع ، أي : وخلق الشمس ، وقرأ ابن عامر بالرفع في الأربعة على الابتداء والخبر ، وقرأ أبان بن ثعلب برفع ( والنجوم مسخرات ) فقط على الابتداء والخبر ، ومعنى ( بأمره ) بمشيئته وتصريفه ، وهو متعلق بمسخرات ، أي : خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره ، وكما يريد أن يصرفها ، سمي ذلك أمرا على التشبيه كأنهن مأمورات بذلك ، وقالأبو عبد الله الرازي الشمس لها نوعان من الحركة أحدهما بحسب ذاتها وذلك يتم في سنة كاملة ، وبسبب ذلك تحصل السنة ، والثاني حركتها بحسب حركة الفلك الأعظم ويتم في اليوم بليلته ، فتقول الليل والنهار لا [ ص: 310 ] يحصلان بحركة الشمس وإنما يحصلان بحركة السماء الأقصى الذي يقال له العرش فلهذا السبب لما دل على العرش بقوله : ( ثم استوى على العرش ) وربط بقوله : ( والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ) تنبيها على أن الفلك الأعظم وهو العرش يحرك الأفلاك والكواكب على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب ، وأنه تعالى أودع في جرم الشمس قوة قاهرة باعتبارها قويت على قهر جميع الأفلاك والكواكب وتحريكها على خلاف مقتضى طبائعها فهذه أبحاث معقولة ولفظ القرآن مشعر بها والعلم عند الله . انتهى .

وتكلم في قوله : ( مسخرات بأمره ) كلاما كثيرا هو من علم الهيئة وهو علم لم ننظر فيه قال : أربابه وهو علم شريف يطلع فيه على جزئيات غريبة من صنعة الله تعالى يزداد بها إيمان المؤمن إذ المعرفة بجزئيات الأشياء وتفاصيلها ليست كالمعرفة بجملتها ، وقيل : ( بأمره ) ، أي : بنفاذ إرادته إذ المقصود تبيين عظيم قدرته لقوله : ( ائتيا طوعا أو كرها ) وقوله : ( إنما قولنا لشيء ) . وقيل : الأمر هو الكلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية