الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              ولما اعتقد بعض الفقهاء أن الإجارة لا تكون إلا على منفعة ليست عينا ، ورأى جواز إجارة الظئر ، قال : المعقود عليه هو وضع الطفل في حجرها ، واللبن دخل ضمنا وتبعا ، كنقع البئر ، وهذا مكابرة للعقل والحس ، فإنا نعلم بالاضطرار أن المقصود بالعقد هو اللبن كما ذكره الله بقوله : ( فإن أرضعن لكم ) ، وضم الطفل إلى حجرها إن فعل فإنما هو وسيلة إلى ذلك ، وإنما العلة ما ذكرته : من أن الفائدة التي تستخلف مع بقاء أصلها تجري مجرى المنفعة ، وليس من البيع الخاص ، فإن الله لم يسم العوض إلا أجرا ، لم يسمه ثمنا ، وهذا بخلاف ما لو حلب اللبن ، فإنه لا يسمى المعاوضة عليه حينئذ إلا بيعا ; لأنه لم يستوف الفائدة من أصلها ، كما يستوفي المنفعة من أصلها .

              فلما كان للفوائد العينية التي يمكن فصلها عن أصلها حالان : [ ص: 214 ] حال تشبه فيه المنافع المحضة ، وهي حال اتصالها واستيفاء المنفعة ، وحال تشبه فيه الأعيان المحضة ، وهي حال انفصالها وقبضها كقبض الأعيان ، فإذا كان صاحب الشجر هو الذي يسقيها ويعمل عليها حتى تصلح الثمرة ، فإنما يبيع ثمرة محضة ، كما لو كان هو الذي يشق الأرض ويبذرها ويسقيها حتى يصلح الزرع ، فإنما يبيع زرعا محضا ، وإن كان المشتري هو الذي يجد ويحصد ، كما لو باعها على الأرض ، وكان المشتري هو الذي ينقل ويحول ، ولهذا جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما في النهي عن بيع الحب حتى يشتد ، وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه ، فإن هذا بيع محض للثمرة والزرع ، وأما إذا كان المالك يدفع الشجرة إلى [المكتري] حتى يسقيها ويلقحها ويدفع عنها الأذى ، فهو بمنزلة دفعه الأرض إلى من يشقها ويبذرها ويسقيها . ولهذا سوى بينهما في المساقاة والمزارعة ، فكما أن كراء الأرض ليس ببيع لزرعها ، فكذلك كراء الشجرة ليس ببيع لثمرها ، بل نسبة كراء الشجر إلى كراء الأرض كنسبة المساقاة إلى المزارعة ، هذا معاملة من النماء ، وهذا كراء بعوض معلوم .

              فإذا كانت هذه الفوائد قد ساوت المنافع في الوقف لأصلها وفي التبرعات بها ، وفي المشاركة بجزء من نمائها ، وفي المعاوضة عليها بعد صلاحها ، فكذلك تساويها في المعاوضة على استفادتها وتحصيلها ، ولو فرق بينهما بأن الزرع إنما يخرج بالعمل بخلاف الثمر فإنه يخرج بلا عمل ، كان هذا الفرق عديم التأثير بدليل المساقاة والمزارعة . وليس بصحيح ، فإن للعمل تأثيرا في الإثمار ، كما له تأثير في الإنبات ، ومع [ ص: 215 ] عدم العمل عليها قد يعدم الثمر وقد ينقص ، فإن من الشجر ما لو لم يسق لم يثمر ، ولو لم يكن للعمل عليه تأثير أصلا لم يجز دفعه إلى عامل بجزء من ثمره ، ولم يجز في مثل هذه الصورة إجارته قبل بدو صلاحه ، فإنه بيع محض للثمرة ، لا إجارة للشجر . ويكون كمن أكرى أرضه لمن يأخذ منها ما ينبته الله بلا عمل أحد أصلا قبل وجوده .

              فإن قيل : المقصود بالعقد هنا غرر ; لأنه قد يثمر قليلا ، وقد يثمر كثيرا .

              يقال : مثله في إكراء الأرض ، فإن المقصود بالعقد غرر أيضا على هذا التقدير ، فإنه قد ينبت قليلا وقد ينبت كثيرا .

              وإن قيل : المعقود عليه هناك التمكن من الازدراع لا نفس الزرع النابت .

              قيل : المعقود عليه هنا : التمكن من الاستثمار ، لا نفس الثمر الخارج . ومعلوم أن المقصود فيهما إنما هو الزرع والثمر ، وإنما يجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك . كما أن المقصود باكتراء الدار إنما هو السكنى ، وإن وجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك .

              فالمقصود في اكتراء الأرض للزرع : إنما هو نفس الأعيان التي تحصد ، ليس كاكترائها للسكنى أو البناء ، فإن المقصود هناك نفس الانتفاع بجعل الأعيان فيها .

              وهذا بين عند التأمل ، لا يزيده البحث عنه إلا وضوحا .

              فظهر به أن الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيع الثمرة قبل زهوها ، وبيع الحب قبل اشتداده ، ليس هو إن شاء الله إكراؤها لمن يحصل ثمرتها وزرعها بعمله وسقيه ، ولا هذا داخل في نهيه لفظا ولا معنى .

              يوضح ذلك : أن البائع لثمرتها عليه تمام سقيها والعمل عليها [ ص: 216 ] حتى يتمكن المشتري [ من الجذاذ ، كما على بائع الزرع تمام سقيه حتى يتمكن المشتري ] من الحصاد ، فإن هذا من تمام التوفية ، ومؤنة التوفية على البائع ، كالكيل والوزن ، وأما المكري لها لمن يخدمها حتى تثمر ، فهو كمكري الأرض لمن يخدمها حتى تنبت ، ليس على المكري عمل أصلا ، وإنما عليه التمكين من العمل الذي يحصل به الثمر والزرع .

              ولكن يقال : طرد هذا : أن يجوز إكراء البهائم لمن يعلفها ويسقيها ويحتلب لبنها .

              قيل : إذا جوزنا على إحدى الروايتين أن تدفع الماشية إلى من يعلفها ويسقيها بجزء من درها ونسلها جاز دفعها إلى من يعمل عليها لدرها ونسلها بشيء مضمون .

              وإن قيل : فهلا جاز إجارتها لاحتلاب لبنها كما جاز إجارة الظئر ؟

              قيل : إجارة الظئر أن ترضع بعمل صاحبها للغنم ; لأن الظئر هي التي ترضع الطفل ، فإذا كانت هي التي توفي المنفعة فنظيره : أن يكون المؤجر هو الذي يوفي منفعة الإرضاع ، وحينئذ فالقياس : جوازه . ولو كان لرجل غنم فاستأجر غنم رجل ليرضعها لم يكن هذا ممتنعا . وأما إن كان المستأجر هو الذي يحلب اللبن ، أو هو الذي يستوفيه ، فهذا مشتر اللبن ، ليس مستوفيا لمنفعة ، ولا مستوفيا للعين بعمل ، وهو شبيه باشتراء الثمرة ، واحتلابه كقطافها ، وهو الذي نهى [ ص: 217 ] عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " لا يباع لبن في ضرع " بخلاف ما لو استأجرها لأن يقوم عليها ويحتلب لبنها ، فهذا نظير اكتراء الأرض والشجر .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية