[ ص: 311 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=88وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون )
عهد في سيرة البشر أن الأمة توعظ وتنذر ، فتتعظ وتتدبر ، فإذا طال عليها الأمد بعد النذير تقسو القلوب ، ويذهب أثر الموعظة من الصدور ، وتفسق عن أمر ربها ، وتنسى ما لم تعمل به مما أنذرت به ، أو تحرفه عن موضعه بضروب التأويل ، وزخرف القال والقيل ، ولقد يكون للمتأخر منها بعض العذر لجهله بما فعل المتقدم ، وأخذه ما يؤثر عنه بالتسليم لكمال الثقة وحسن الظن .
بين الله - تعالى - هذه السنة الاجتماعية في سورة الحديد بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=16ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) ( 57 : 16 ) ولهذا
nindex.php?page=treesubj&link=34056_32419كان - تعالى - يرسل الرسل بعضهم في أثر بعض حتى لا يطول أمد الإنذار على الناس فيفسقوا ويضلوا ، ولا يعرف التاريخ شعبا جاءت فيه الرسل تترى
كشعب إسرائيل ؛ لذلك كانوا بمعزل عن صحة العذر بطول الأمد على الإنذار ، وفي ناحية عما يرجى قبوله من التعلل والاعتذار ؛ لهذا قال - تعالى - بعد كل ما تقدم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل ) فلم يمر زمن بين
موسى وعيسى آخر أنبيائهم إلا وكان فيه نبي مرسل ، أو أنبياء متعددون يأمرون وينهون ، كأنه يقول : اعلموا يا
بني إسرائيل أنه إن كان لطول الأمد على النبوة وبعد العهد بالرسل يد في تغيير الأوضاع ونسيان الشرائع ، وكان في ذلك وجه لاعتذار بعض المتأخرين ، فإن ذلك لا يتناولكم ، فإن الرسل قد جاءتكم تترى ثم كان من أمركم معهم ما كان .
ذكر رسل
بني إسرائيل بالإجمال لبيان ما ذكر ، ثم خص بالذكر
المسيح - عليه السلام - فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ) ، فأما البينات : فهي ما يتبين به الحق من الحجج القيمة والآيات الباهرة . وقال الأستاذ الإمام : المراد بها ما عاد إليه من أحكام التوراة . وأما روح القدس فهو روح الوحي الذي يؤيد الله - تعالى - به أنبياءه في عقولهم ومعارفهم
[ ص: 312 ] وهو هو المراد بقوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) ( 42 : 52 ) الآية . ويطلق عليه روح القدس ؛ لأن التعليم الذي يكون به مقدس ، أو لأنه يقدس النفوس كما يطلق عليه " الروح الأمين " ؛ لأن النبي الموحى إليه يكون على بينة من ربه فيه يأمن معها التلبيس فيما يلقى إليه ، قال - تعالى - في القرآن : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=193نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ) ( 26 : 193 ، 194 ) .
( ثم قال الأستاذ ) : ذهب جمهور المفسرين إلى أن
nindex.php?page=treesubj&link=29752المراد بروح القدس الملك المسمى
بجبريل الذي ينزل على الأنبياء ، ومنه يستمدون الشرائع عن الله - تعالى - ، وهو على حد قولهم " حاتم الجود " ، وذكر بعضهم وجها آخر ، وهو أن المراد بها روح
عيسى نفسه ، ووصفها بالقداسة والطهارة بمعنى إعاذته من الشيطان أن يكون له حظ فيه ، أو لأنه أنزل عليه الإنجيل بالتعاليم التي تقدس النفوس ، بل قال بعضهم : إن روح القدس هو الإنجيل ، والمراد من الكل واحد ، وهو أن الله - تعالى - أرسل إليهم
عيسى بعد ظهور رسل كثيرين فيهم بعد
موسى ، وأعطاه ما لم يعط كل رسول من أولئك من الوحي أو من قوة الروح ، وزكاء النفس ومكارم الأخلاق ، ونسخ بعض الأحكام ، وقد كان حظه مع ذلك منهم كحظ سابقيه الذين لم يؤتوا من المواهب مثل ما أوتي .
ماذا كان حظ أولئك الرسل من
بني إسرائيل ؟ كان حظهم منهم ما أفاده الاستفهام التوبيخي في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ) ، فاتبعتم الهوى وأطعتم الشهوات ، وعصيتم الرسل واحتميتم عليهم أن أنذروكم ودعوكم إلى أحكام كتابكم ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ) كان المعهود في التخاطب وكلام الناس أن تذكر هذه المساوئ ثم يوبخون عليها ، ولكن طواها في الخطاب وأدمجها في الاستفهام لتفاجئ النفوس بقوة التشنيع والتقبيح ، وتبرز لها في ثوب الإنكار والتوبيخ ، وفي ذلك الإيماء إلى أن هذه المعاملة السوءى مما لا يخفى خبرها ، ولا تغيب عن الإنكار صورها ، فلا ينبغي الإلماع إليها إلا في سياق تقريع مجترحيها ، وهذا من إيجاز القرآن الذي لا يعرج إليه فكر الإنسان ، وانظر كيف أورد خبر القتل بصيغة المضارع التي تدل على الحال لاستحضار تلك الصورة الفظيعة ، وتمثيلها للسامع حتى يمثلها في الخيال ، وإن مرت عليها القرون والأحوال ؛ لأنها أفاعيل لا تخلق جدتها ، ودماء لا تطير رغوتها ، وإن مثل هذا التعبير ليمثل تلك الصورة المشوهة ؛ لأن الألفاظ إذا قرعت الذهن بمفهومها ، يتناول الخيال ذلك المفهوم ويصوره بالصورة اللائقة به ، فيكون له من التأثير ما يناسبه .
قتلوا من الأنبياء المرسلين
زكريا ويحيى - عليهما السلام - ويروى أنهم قتلوا في يوم واحد مائة وخمسين نبيا ، فإن صح هذا ، فالمراد بأولئك الأنبياء من كانت نبوتهم محصورة في الدعوة
[ ص: 313 ] إلى إقامة التوراة ، ودليلها محصور في الإنباء ببعض المغيبات ، وكان هذا الفريق منتشرا في أسباط
بني إسرائيل وكثيرا بكثرتهم .
وفي هذه الآية حجتان للنبي - صلى الله عليه وسلم - : حجة على
بني إسرائيل ، وحجة على الذين يعجبون لعدم إيمانهم به وإجابتهم دعوته ، وبيان أن
المجاحدة والمعاندة من شأنهم ، ومما عرف من شنشنتهم ، وناسب بعد هذا أن يذكر ما كانوا يعتذرون به عن الإيمان به ، والاهتداء بكتابه بعد تقرير الدعوة وإقامة الحجة ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=88وقالوا قلوبنا غلف ) والغلف : بضم وسكون وبضمتين جمع أغلف ، وهو ما يحيط به غلاف يمنع أن يصيبه شيء . والمراد أننا لا نعقل قولك ، ولا ينفذ إلى قلوبنا مفهوم دعوتك ؛ فهو بمعنى قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=5وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ) ( 41: 5 ) .
وقد رد الله - تعالى - عليهم بما يشعر بكذبهم وعنادهم فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=88بل لعنهم الله بكفرهم ) أي أن قلوبهم ليست غلفا لا تفهم الحق بطبعها ، وإنما أبعدهم الله - تعالى - من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء السابقين ، وبالكتاب الذي تركوا العمل به وحرفوه اتباعا لأهوائهم ، فهم قد أنسوا بالكفر وانطبعوا عليه ، فكان ذلك سببا في حرمانهم من قبول الرحمة الكبرى بإجابة دعوة خاتم النبيين ، هذا هو معنى اللعن ، وقد ذكرت معه علته ؛ ليعلم أنه جرى على سنة الله - تعالى - في الأسباب والمسببات ، وأن الله لم يظلمهم بهذا ، وإنما ظلموا أنفسهم بالكفر الذي يستتبع الكفر ، والعصيان الذي يجر إلى التمادي في العصيان ، كما هي السنة في أخلاق الإنسان ، ولما ذكر اللعن معللا بالكفر الذي هو نتيجة تأثير أعمالهم السابقة في أنفسهم ، وكان مما يخطر بالبال أن أولئك القوم لم يكونوا كافرين بل مؤمنين بالله وكتابه ورسله إليهم استدرك فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=88فقليلا ما يؤمنون ) ، وإنما القلة في الإيمان باعتبار ما يؤمن به من أصول الدين وأحكام الشريعة ، وبالنسبة إلى اليقين في الإيمان وتحكيمه في الفكر والوجدان .
ولقد كان القوم يؤمنون بالشريعة في الجملة وكما تعطيه ظواهر الألفاظ ، ولكنهم لم يلبسوها مفصلة تفصيلا ولم يفقهوا حكمها وأسرارها ، فلم يكن لها سلطان على قلوبهم ، ولم تكن هي المحركة لإرادتهم في أعمالهم ، وإنما كان يحركها الهوى والشهوة ، ويصرفها عامل اللذة ، فالإيمان إنما كان عندهم قولا باللسان ، ورسما يلوح في الخيال ، تكذبه الأعمال وتطمسه السجايا الراسخة والخلال ، وهذا هو الإيمان الذي لا قيمة له عند الله - تعالى - ، ومن العجب أن نرى آيات القرآن تبطله بالحجج القيمة والأساليب المؤثرة ، وأهل القرآن عن ذلك غافلون ، فقليلا ما يعتبرون ويتذكرون .
ومن مباحث اللفظ في الآية : أن كثيرا من المفسرين يزعمون أن ( ما ) زائدة وما هي بزائدة وفاقا
nindex.php?page=showalam&ids=16935لابن جرير الطبري ، وجل القرآن أن يكون فيه كلم زائد ، وإنما تأتي ( ما ) هذه لإفادة العموم تارة ولتفخيم الشيء تارة ، ويقول
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : إنما يؤتى بها في مثل هذا
[ ص: 314 ] المقام كمبتدأ كلام جديد يفيد العموم ، كأنه قال : فإيمانا قليلا ذلك الذي يؤمنون به . وأما التي لتفخيم الشيء فكقوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=159فبما رحمة من الله لنت لهم ) ( 3 : 159 ) أي فبسبب رحمة عظيمة الشأن خصك الله بها لنت لهم على ما لقيت منهم ، وقد بين - تعالى - هذه الرحمة بقوله في وصفه - صلى الله عليه وسلم - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=128بالمؤمنين رءوف رحيم ) ( 9 : 128 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=107وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ( 21 : 107 ) .
هذا ما اختاره الأستاذ الإمام في تفسير قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=88فقليلا ما يؤمنون ) ، وهناك وجه آخر أورده
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير في تفسيره ، وهو أنه لا يؤمن بالنبي وما جاء به إلا قليل منهم ، والاستدراك على هذا الوجه أظهر ؛ فإنه لما بين أن كفرهم المستقر ، وعصيانهم المستمر ، كان سببا في لعنهم وإبعادهم ، كان للوهم أن يذهب إلى أنهم قوم قد سجل عليهم الشقاء وعمهم حتى لا مطمع في إيمان أحد منهم ، فجاء قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=88فقليلا ما يؤمنون ) يبين أن هذا الوهم لا يصح أن ينطلق على إطلاقه ، وأن تأثير ما ذكر في مجموع الشعب لم يستغرق أفراده استغراقا ، وإنما غمر الأكثرين ، ويرجى أن ينجو منه النفر القليل ، وكذلك كان .
أقول : وفيه من دقة القرآن في الصدق وتحديد الحق ما لا يعهد في كلام الناس .
[ ص: 311 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=88وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ )
عُهِدَ فِي سِيرَةِ الْبَشَرِ أَنَّ الْأُمَّةَ تُوعَظُ وَتُنْذَرُ ، فَتَتَّعِظُ وَتَتَدَبَّرُ ، فَإِذَا طَالَ عَلَيْهَا الْأَمَدُ بَعْدَ النَّذِيرِ تَقْسُو الْقُلُوبُ ، وَيَذْهَبُ أَثَرُ الْمَوْعِظَةِ مِنَ الصُّدُورِ ، وَتَفْسُقُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا ، وَتَنْسَى مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ مِمَّا أُنْذِرَتْ بِهِ ، أَوْ تُحَرِّفُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ بِضُرُوبِ التَّأْوِيلِ ، وَزُخْرُفِ الْقَالِ وَالْقِيلِ ، وَلَقَدْ يَكُونُ لِلْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا بَعْضُ الْعُذْرِ لِجَهْلِهِ بِمَا فَعَلَ الْمُتَقَدِّمُ ، وَأَخْذِهِ مَا يُؤْثَرُ عَنْهُ بِالتَّسْلِيمِ لِكَمَالِ الثِّقَةِ وَحُسْنِ الظَّنِّ .
بَيَّنَ اللَّهُ - تَعَالَى - هَذِهِ السُّنَّةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=16أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينِ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) ( 57 : 16 ) وَلِهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=34056_32419كَانَ - تَعَالَى - يُرْسِلُ الرُّسُلَ بَعْضُهُمْ فِي أَثَرِ بَعْضٍ حَتَّى لَا يَطُولَ أَمَدُ الْإِنْذَارِ عَلَى النَّاسِ فَيَفْسُقُوا وَيَضِلُّوا ، وَلَا يَعْرِفُ التَّارِيخُ شَعْبًا جَاءَتْ فِيهِ الرُّسُلُ تَتْرَى
كَشَعْبِ إِسْرَائِيلَ ؛ لِذَلِكَ كَانُوا بِمَعْزِلٍ عَنْ صِحَّةِ الْعُذْرِ بِطُولِ الْأَمَدِ عَلَى الْإِنْذَارِ ، وَفِي نَاحِيَةٍ عَمَّا يُرْجَى قَبُولُهُ مِنَ التَّعَلُّلِ وَالِاعْتِذَارِ ؛ لِهَذَا قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ) فَلَمْ يَمُرَّ زَمَنٌ بَيْنَ
مُوسَى وَعِيسَى آخِرِ أَنْبِيَائِهِمْ إِلَّا وَكَانَ فِيهِ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ ، أَوْ أَنْبِيَاءُ مُتَعَدِّدُونَ يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ ، كَأَنَّهُ يَقُولُ : اعْلَمُوا يَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِطُولِ الْأَمَدِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَبَعْدَ الْعَهْدِ بِالرُّسُلِ يَدٌ فِي تَغْيِيرِ الْأَوْضَاعِ وَنِسْيَانِ الشَّرَائِعِ ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ وَجْهٌ لِاعْتِذَارِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُكُمْ ، فَإِنَّ الرُّسُلَ قَدْ جَاءَتْكُمْ تَتْرَى ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ مَعَهُمْ مَا كَانَ .
ذَكَرَ رُسُلَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْإِجْمَالِ لِبَيَانِ مَا ذَكَرَ ، ثُمَّ خَصَّ بِالذِّكْرِ
الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) ، فَأَمَّا الْبَيِّنَاتُ : فَهِيَ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الْحُجَجِ الْقَيِّمَةِ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ . وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : الْمُرَادُ بِهَا مَا عَادَ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ . وَأَمَّا رُوحُ الْقُدُسِ فَهُوَ رُوحُ الْوَحْيِ الَّذِي يُؤَيِّدُ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ أَنْبِيَاءَهُ فِي عُقُولِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ
[ ص: 312 ] وَهُوَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا وَمَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ) ( 42 : 52 ) الْآيَةِ . وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ رُوحُ الْقُدُسِ ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيمَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُقَدَّسٌ ، أَوْ لِأَنَّهُ يُقَدِّسُ النُّفُوسَ كَمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ " الرُّوحُ الْأَمِينُ " ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ الْمُوحَى إِلَيْهِ يَكُونُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فِيهِ يَأْمَنُ مَعَهَا التَّلْبِيسَ فِيمَا يُلْقَى إِلَيْهِ ، قَالَ - تَعَالَى - فِي الْقُرْآنِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=193نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) ( 26 : 193 ، 194 ) .
( ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ ) : ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29752الْمُرَادَ بِرُوحِ الْقُدُسِ الْمَلَكُ الْمُسَمَّى
بِجِبْرِيلَ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ، وَمِنْهُ يَسْتَمِدُّونَ الشَّرَائِعَ عَنِ اللَّهِ - تَعَالَى - ، وَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ " حَاتِمُ الْجُودِ " ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ وَجْهًا آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا رُوحُ
عِيسَى نَفْسِهِ ، وَوَصْفُهَا بِالْقَدَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ بِمَعْنَى إِعَاذَتِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ فِيهِ ، أَوْ لِأَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْإِنْجِيلُ بِالتَّعَالِيمِ الَّتِي تُقَدِّسُ النُّفُوسَ ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ هُوَ الْإِنْجِيلُ ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْكُلِّ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ
عِيسَى بَعْدَ ظُهُورِ رُسُلٍ كَثِيرِينَ فِيهِمْ بَعْدَ
مُوسَى ، وَأَعْطَاهُ مَا لَمْ يُعْطِ كُلَّ رَسُولٍ مِنْ أُولَئِكَ مِنَ الْوَحْيِ أَوْ مِنْ قُوَّةِ الرُّوحِ ، وَزَكَاءِ النَّفْسِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ، وَنَسْخِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ ، وَقَدْ كَانَ حَظُّهُ مَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَحَظِّ سَابِقِيهِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْتَوْا مِنَ الْمَوَاهِبِ مِثْلُ مَا أُوتِيَ .
مَاذَا كَانَ حَظُّ أُولَئِكَ الرُّسُلِ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ ؟ كَانَ حَظُّهُمْ مِنْهُمْ مَا أَفَادَهُ الِاسْتِفْهَامُ التَّوْبِيخِيُّ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ ) ، فَاتَّبَعْتُمُ الْهَوَى وَأَطَعْتُمُ الشَّهَوَاتِ ، وَعَصَيْتُمُ الرُّسُلَ وَاحْتَمَيْتُمْ عَلَيْهِمْ أَنْ أَنْذَرُوكُمْ وَدَعَوْكُمْ إِلَى أَحْكَامِ كِتَابِكُمْ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ) كَانَ الْمَعْهُودُ فِي التَّخَاطُبِ وَكَلَامِ النَّاسِ أَنَّ تُذْكَرَ هَذِهِ الْمَسَاوِئُ ثُمَّ يُوَبَّخُونَ عَلَيْهَا ، وَلَكِنْ طَوَاهَا فِي الْخِطَابِ وَأَدْمَجَهَا فِي الِاسْتِفْهَامِ لِتُفَاجِئَ النُّفُوسَ بِقُوَّةِ التَّشْنِيعِ وَالتَّقْبِيحِ ، وَتَبْرُزَ لَهَا فِي ثَوْبِ الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ ، وَفِي ذَلِكَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ السُّوءَى مِمَّا لَا يَخْفَى خَبَرُهَا ، وَلَا تَغِيبُ عَنِ الْإِنْكَارِ صُوَرُهَا ، فَلَا يَنْبَغِي الْإِلْمَاعُ إِلَيْهَا إِلَّا فِي سِيَاقِ تَقْرِيعِ مُجْتَرِحِيهَا ، وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِكْرُ الْإِنْسَانِ ، وَانْظُرْ كَيْفَ أَوْرَدَ خَبَرَ الْقَتْلِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْحَالِ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ الْفَظِيعَةِ ، وَتَمْثِيلِهَا لِلسَّامِعِ حَتَّى يُمَثِّلَهَا فِي الْخَيَالِ ، وَإِنْ مَرَّتْ عَلَيْهَا الْقُرُونُ وَالْأَحْوَالُ ؛ لِأَنَّهَا أَفَاعِيلٌ لَا تَخْلَقُ جِدَّتُهَا ، وَدِمَاءٌ لَا تَطِيرُ رَغْوَتُهَا ، وَإِنَّ مِثْلَ هَذَا التَّعْبِيرِ لِيُمَثِّلُ تِلْكَ الصُّورَةَ الْمُشَوَّهَةَ ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ إِذَا قَرَعَتِ الذِّهْنَ بِمَفْهُومِهَا ، يَتَنَاوَلُ الْخَيَالُ ذَلِكَ الْمَفْهُومَ وَيُصَوِّرُهُ بِالصُّورَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ ، فَيَكُونُ لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ مَا يُنَاسِبُهُ .
قَتَلُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ
زَكَرِيَّا وَيَحْيَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَيُرْوَى أَنَّهُمْ قَتَلُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِائَةً وَخَمْسِينَ نَبِيًّا ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا ، فَالْمُرَادُ بِأُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ كَانَتْ نُبُوَّتُهُمْ مَحْصُورَةً فِي الدَّعْوَةِ
[ ص: 313 ] إِلَى إِقَامَةِ التَّوْرَاةِ ، وَدَلِيلُهَا مَحْصُورٌ فِي الْإِنْبَاءِ بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ ، وَكَانَ هَذَا الْفَرِيقُ مُنْتَشِرًا فِي أَسْبَاطِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَثِيرًا بِكَثْرَتِهِمْ .
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّتَانِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : حُجَّةٌ عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَحُجَّةٌ عَلَى الَّذِينَ يَعْجَبُونَ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِهِ وَإِجَابَتِهِمْ دَعْوَتَهُ ، وَبَيَانُ أَنَّ
الْمُجَاحَدَةَ وَالْمُعَانَدَةَ مِنْ شَأْنِهِمْ ، وَمِمَّا عُرِفَ مِنْ شَنْشَنَتِهِمْ ، وَنَاسَبَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَذْكُرَ مَا كَانُوا يَعْتَذِرُونَ بِهِ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ ، وَالِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِهِ بَعْدَ تَقْرِيرِ الدَّعْوَةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=88وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ) وَالْغُلْفُ : بِضَمٍّ وَسُكُونٍ وَبِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ أَغْلَفَ ، وَهُوَ مَا يُحِيطُ بِهِ غِلَافٌ يَمْنَعُ أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ . وَالْمُرَادُ أَنَّنَا لَا نَعْقِلُ قَوْلَكَ ، وَلَا يَنْفُذُ إِلَى قُلُوبِنَا مَفْهُومُ دَعْوَتِكَ ؛ فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=5وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنَكَ حِجَابٌ ) ( 41: 5 ) .
وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِمَا يُشْعِرُ بِكَذِبِهِمْ وَعِنَادِهِمْ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=88بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ) أَيْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَيْسَتْ غُلْفًا لَا تَفْهَمُ الْحَقَّ بِطَبْعِهَا ، وَإِنَّمَا أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ رَحْمَتِهِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِالْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ ، وَبِالْكِتَابِ الَّذِي تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ وَحَرَّفُوهُ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ ، فَهُمْ قَدْ أَنِسُوا بِالْكُفْرِ وَانْطَبَعُوا عَلَيْهِ ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي حِرْمَانِهِمْ مِنْ قَبُولِ الرَّحْمَةِ الْكُبْرَى بِإِجَابَةِ دَعْوَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ، هَذَا هُوَ مَعْنَى اللَّعْنِ ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَعَهُ عِلَّتَهُ ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ جَرَى عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَظْلِمْهُمْ بِهَذَا ، وَإِنَّمَا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَسْتَتْبِعُ الْكُفْرَ ، وَالْعِصْيَانِ الَّذِي يَجُرُّ إِلَى التَّمَادِي فِي الْعِصْيَانِ ، كَمَا هِيَ السَّنَةُ فِي أَخْلَاقِ الْإِنْسَانِ ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّعْنَ مُعَلَّلًا بِالْكُفْرِ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ تَأْثِيرِ أَعْمَالِهِمُ السَّابِقَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ ، وَكَانَ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا كَافِرِينَ بَلْ مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَكِتَابِهِ وَرُسُلِهِ إِلَيْهِمُ اسْتَدْرَكَ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=88فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ) ، وَإِنَّمَا الْقِلَّةُ فِي الْإِيمَانِ بِاعْتِبَارِ مَا يُؤْمَنُ بِهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَقِينِ فِي الْإِيمَانِ وَتَحْكِيمِهِ فِي الْفِكْرِ وَالْوِجْدَانِ .
وَلَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ يُؤْمِنُونَ بِالشَّرِيعَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَكَمَا تُعْطِيهِ ظَوَاهِرُ الْأَلْفَاظِ ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَلْبِسُوهَا مُفَصَّلَةً تَفْصِيلًا وَلَمْ يَفْقَهُوا حِكَمَهَا وَأَسْرَارَهَا ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، وَلَمْ تَكُنْ هِيَ الْمُحَرِّكَةُ لِإِرَادَتِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ ، وَإِنَّمَا كَانَ يُحَرِّكُهَا الْهَوَى وَالشَّهْوَةُ ، وَيُصَرِّفُهَا عَامِلُ اللَّذَّةِ ، فَالْإِيمَانُ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَهُمْ قَوْلًا بِاللِّسَانِ ، وَرَسْمًا يَلُوحُ فِي الْخَيَالِ ، تُكَذِّبُهُ الْأَعْمَالُ وَتَطْمِسُهُ السَّجَايَا الرَّاسِخَةُ وَالْخِلَالُ ، وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - ، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ نَرَى آيَاتِ الْقُرْآنِ تُبْطِلُهُ بِالْحُجَجِ الْقَيِّمَةِ وَالْأَسَالِيبِ الْمُؤَثِّرَةِ ، وَأَهْلُ الْقُرْآنِ عَنْ ذَلِكَ غَافِلُونَ ، فَقَلِيلًا مَا يَعْتَبِرُونَ وَيَتَذَكَّرُونَ .
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ : أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ ( مَا ) زَائِدَةٌ وَمَا هِيَ بِزَائِدَةٍ وِفَاقًا
nindex.php?page=showalam&ids=16935لِابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ ، وَجَلَّ الْقُرْآنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كَلِمٌ زَائِدٌ ، وَإِنَّمَا تَأْتِي ( مَا ) هَذِهِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ تَارَةً وَلِتَفْخِيمِ الشَّيْءِ تَارَةً ، وَيَقُولُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ : إِنَّمَا يُؤْتَى بِهَا فِي مِثْلِ هَذَا
[ ص: 314 ] الْمُقَامِ كَمُبْتَدَأِ كَلَامٍ جَدِيدٍ يُفِيدُ الْعُمُومَ ، كَأَنَّهُ قَالَ : فَإِيمَانًا قَلِيلًا ذَلِكَ الَّذِي يُؤْمِنُونَ بِهِ . وَأَمَّا الَّتِي لِتَفْخِيمِ الشَّيْءِ فَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=159فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ) ( 3 : 159 ) أَيْ فَبِسَبَبِ رَحْمَةٍ عَظِيمَةِ الشَّأْنِ خَصَّكَ اللَّهُ بِهَا لِنْتَ لَهُمْ عَلَى مَا لَقِيتَ مِنْهُمْ ، وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - هَذِهِ الرَّحْمَةَ بِقَوْلِهِ فِي وَصْفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=128بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) ( 9 : 128 ) وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=107وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) ( 21 : 107 ) .
هَذَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=88فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ) ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ أَوْرَدَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالنَّبِيِّ وَمَا جَاءَ بِهِ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ، وَالِاسْتِدْرَاكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَظْهَرُ ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ كُفْرَهُمُ الْمُسْتَقِرَّ ، وَعِصْيَانَهُمُ الْمُسْتَمِرَّ ، كَانَ سَبَبًا فِي لَعْنِهِمْ وَإِبْعَادِهِمْ ، كَانَ لِلْوَهْمِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ قَوْمٌ قَدْ سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاءَ وَعَمَّهُمْ حَتَّى لَا مَطْمَعَ فِي إِيمَانِ أَحَدٍ مِنْهُمْ ، فَجَاءَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=88فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ) يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْوَهْمَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَنْطَلِقَ عَلَى إِطْلَاقِهِ ، وَأَنَّ تَأْثِيرَ مَا ذُكِرَ فِي مَجْمُوعِ الشَّعْبِ لَمْ يَسْتَغْرِقْ أَفْرَادَهُ اسْتِغْرَاقًا ، وَإِنَّمَا غَمَرَ الْأَكْثَرِينَ ، وَيُرْجَى أَنْ يَنْجُوَ مِنْهُ النَّفَرُ الْقَلِيلُ ، وَكَذَلِكَ كَانَ .
أَقُولُ : وَفِيهِ مِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ فِي الصِّدْقِ وَتَحْدِيدِ الْحَقِّ مَا لَا يُعْهَدُ فِي كَلَامِ النَّاسِ .